" إنّ شعب تونس يفني الحضارات في ذاته ولا تفني له ذاته. أرضها أرض المزج والنار من كلّ معدن تصنع فولاذها، فتزول الأعراض ويبقى الجوهر" مانعة لمصطفى الفيلالي لقد تناول الجامعيّون وغير الجامعيين بالدرس والتمحيص مكوّنات الشخصية التونسية وخصوصيتها من البشير بن سلامة إلى الهادي التيمومي مرورا بالمنصف ونّاس. ولقد اجتهدوا كلّهم في الغوص في أغوار هاته التركيبة الكيمياوية لشعب لا يتجاوز عدد أفراده سكّان كبريات المدن في العالم. ولكنه شعب أمال أعناق الشعوب الأخرى نحوه ذات 14 جانفي. تمتاز الشخصيّة التونسية بالأساس بما تختزل في كينونتها بالزخم المتراكم منذ سالف الأزمان. لقد عدّد محمد إدريس في مسرحيّته " حيّ المعلم " بأسلوبه الإبداعي كلّ الحضارات التي تداولت فوق هاته الربوع التي عمّرها أسلافنا البربر قبل أن يفد الفنيقيون والرومان والفندال والبيزنطيون إلى أن حلّ بين ظهرانينا العبادلة السبعة " وجاء نصر الله والفتح " ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا " ثمّ تفرّق الناس شيعا فمن مالكي أشعري إلى حنفي مرورا بخارجي. ثمّ جاء بنو هلال فعرّبوا وخرّبوا. ولكن بني تونس أعادوا البناء بناء الذات أوّلا. مهما تباينت اللبنات فإنّ البنيان مرصوص يشدّ بعضه البعض ولا عجب في ذلك عندما ندرك أنّ التونسة مثلما يحلو لبعض علماء الأنتروبولوجيا اختزال خصائص أهل هذا البلد، هي كمثل الشجرة الوارفة ظلالها أصلها ثابت وفروعها في السماء. وإنّي لأزعم أنّ فقيدنا مصطفى الفيلالي إنّما هو اختزال طوال عمره المديد هذه السمات، بل إنّي أجزم أنه هو الأنموذج للجذع المشترك للشخصية التونسية. كان يحمل هموم الأمّة منذ أن عاد إلى وكره بعد أن طار بجناحيه إلى مدينة الأنوار محمّلا بأرقى الدرجات العلمية من أعتى الجامعات السربون. وانخرط في الجهاد الأكبر فبذل وأعطى ولم يترقب جزاءا ولا شكورا. ولم يصطف إلا في جبهة واحدة: الجبهة الوطنية. كان يرفض الإقصاء ويقبل التنوّع بل كان ينشده. كان يردّد: " إنّ الوطن يسع للجميع ". لم تكن تشغله هواجس المحافظة والحداثة ولا معارك الهويّات القاتلة. كان محافظا وحداثيّا في آن. كان شديد التعلّق بلغة الضاد وكان في ذات الوقت يكتب بفرنسيّة قحّة. كان يلبس الجبّة والبرنس كما كان يلبس البدلة الإفرنجية مع ربطة العنق أينما حلّ فهو هو، في الريف كما في المدينة، كان تونسيّا. لو أردنا التعرّف أكثر على هذا التونسي الفذّ فأستسمحكم في إحالة الكلام إلى الناقد الراحل توفيق بكّار في تقديم رواية " مانعة " للفيلالي وبالأخص عن أسلوبه في الكتابة إذ يقول الإفرنج إنّما الأسلوب هو الرجل. " في هذه القصّة تتّجد الفصحى والدارجة اتّحادا عضويّا وفي هذا المزج صورة من الإبداع في القول تكتسب معه الفصحى نكهة اليومي من العبارة والدارجة عراقة المعتّق من اللفظ الأدبي". ويضيف بكار في فقرة أخرى: " إنّ الفيلالي لا يرى مولّدا للحقائق حافظا للمصالح، كافلا للوفاق ضامنا للمستقبل خيرا من الجدل الحرّ ولا كمثله لائقا بكرامة الإنسان". وهو ما يحيلنا إلى ما يميز شخصية الفيلالي وهو تعلّقه على الدوام بأمّ القيم : الحريّة. فلنستمع إلى ما يقوله أحد أبطال رواية " مانعة " الطيب على لسان المؤلف: " أنت تعلم أنّ أكبر فتنة حلّت بنا غداة التحاق الرسول الكريم بالرفيق الأعلى، ومن وقتها خسرنا طعم الحريّة، خسرنا التربية على ممارسة الشورى، خسرنا التداول على السلطة، زاغت العقول عن المفهوم السليم للسلطة وصرفنا الأبصار عن اعتبار ما تعنيه أوزار المسؤولية. لقد أدركت الرجل في سبعينيات القرن الماضي وتعرّفت عليه عندما شاركنا سويّا في المؤتمر الثامن للمدن العربيّة بالرياض سنة 1986 وكان وقتئذ يتحمّل وزر مدينة رادس وأشهد أنني لمست عن كثب ما كان يشعّ من سماته نقاوة السريرة وطمأنينة النفس. واليوم وقد رجعت هذه النفس إلى ربّها راضية مرضيّة فاللهم أدخلها في جنّتك وأدخلها في عبادك الصالحين، آمين.