نواصل في هذه الوقفة الثانية مع الكاتبة هالة الوردي محاورة كتابها الحدث " الخلفاء الملعونون " لنلج إلى لب القضية التي شكلت منعرجا حاسما في تاريخ المسلمين وأسست لمرحلة هامة من التاريخ الإسلامي وأثرت بقوة في المسار السياسي للمسلمين نتناول فيها موضوع ما حصل في سقيفة بني ساعدة ساعات قليلة بعد الإعلان عن وفاة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فهل وفقت هالة الوردي في ما ذهبت إليه من تحليل ؟ وهل قالت كل الحقيقة بخصوص اختيار الصديق ليكون خليفة للمسلمين وليتولى إدارة شؤونهم الدنيوية ؟ وهل فعلا قدمت رواية تاريخية مختلفة و مقبولة لحكاية الاسلام المبكر تقترب من حقيقة ما حصل ؟ تقول الكاتبة بمجرد أن أعلن عن وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم من طرف أبي بكر الصديق حتى تسلل الأنصار في تخف وفي جنح الظلام إلى سقيفة بني ساعدة لمجابهة هذه الوضعية المتعلقة بالحكم وعقدوا مجلس أزمة لتعيين قائد للمسلمين منحدر منهم . وتفسر هالة الوردي سبب هذا الاستعجال من طرف الأنصار في حسم موضوع من يخلف الرسول على رأس المسلمين ولماذا ظهر هذا الهاجس وهذا القلق لديهم بخصوص حالة الفراغ في القيادة الذي تركه موت الرسول صلى الله عليه وسلم بالرجوع إلى العلاقة التاريخية التي كانت تحكم قبيلتي الأوس والخزرج المحكومة بالتقاتل وعدم الاستقرار والفرقة والتناحر إلى درجة أقرت فيها أنه لم تحصل لهم وحدة واتفاق إلا مع الإسلام ولم تعرف القبيلتان حالة من السلم والهدوء إلا بعد اعتناقهم الاسلام واحتضان الدعوة الجديدة ومناصرة الدين الجديد بعد قدوم الرسول وأصحابه إلى المدينة وتكوين كيان سياسي جديد وبناء أمة جديدة كان للأنصار فيها مكانة كبرى مع المهاجرين تقول : لقد تمكن الإسلام من أن يوحد بين الاوس والخزرج وأن ينهي حالة الاقتتال الذي دام طويلا بين القبيلتين وأن يجعل من الأنصار قوة دافعة للإسلام تحت قيادة الرسول المبعوث." وهذا يعني أن الانصار كانوا على وعي تام بخطورة حدث وفاة الرسول صلى الله عليه و سلمهم على وضعية التوافق والاتفاق التي حصلت لهم تحت إمرته التي جعلت منهم أمة منصهرة في إطار الدولة الإسلامية الجديدة فكان خوفهم من أن يعود الاقتتال بينهم وأن يهدم صرح الأمن والسلم الذي عاشوا فيه في ظل وجود من قبلوا به قائدا عليهم بعد موته ليعود من جديد هاجس القيادة السياسية وهاجس الزعامة في إدارة الأمور ومن هو أهل لقيادتهم خاصة وأن العرب قد تعودوا تاريخيا على وجود زعيم للقبيلة يكون رمز قوتهم من أجل ذلك سارعوا إلى اختيار زعيم لهم يجمع صفوفهم ويؤمن حياتهم بعد اختفاء الرسول القائد المجمع والموحد وهناك عامل وسبب آخر لعله كان مهما أيضا في هذا الاستعجال الذي ظهر عليهم ولهذا التسلل المتخفي كما تقول ومن دون إعلام المهاجرين وحصر التباحث فيما بينهم فقط في مسألة من يخلف الرسول في المرحلة المقبلة وفيمن يقبلون به زعيما عليهم وهو أنهم أرادوا بهذه الحركة تفويت الفرصة على القرشيين حتى لا يتسلموا القيادة السياسية بدلا عنهم ورفضهم الخضوع لسلطة غير سلطة زعيم من الأنصار بعد رحيل القائد الموحد الذي قبلوا به خاصة وأن الرسول لم يترك وصية واضحة تعين من يخلفه على رأس السلطة فكان الالتقاء والاتفاق على شخصية الصحابي المعروف سعد بن عبادة الذي كان مسموع الرأي ومؤثرا وله وزنه بين الصحابة فضلا عن كونه كان يتمتع بسلطة ومكانة كبيرتين بين القبيلتين ولقناعة واضحة قد حصل حولها اجماع من أنه الأجدر والأصلح ليأخذ مكان الرسول في مواصلة قيادة المسلمين في المرحلة المقبلة. لكن كيف صورت هالة الوردي هذا اللقاء الخزرجي الأوسي ؟ وكيف قدمت عملية تسلم السلطة والحكم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك المكان الشهير في سقيفة بني ساعدة ؟ ما هو مزعج في السردية الجديدة التي تقترحها هالة الوردي هو أنها قدمت الأحداث على أن كل ما حصل بدأ من فكرة تآمر الانصار على الحكم وحقدهم على المهاجرين ومن منطلق الصراع الذي ظهر بعد وفاة الرسول على السلطة ومن منطلق كونهم قد رتبوا بمفردهم مستقبل الدين وكيفية استمراره من دون المهاجرين ومن دون سلطة قرشية عليهم لاعتبارات كانوا يرونها أنها تخول لهم تزعم المسلمين وهي عامل المكان والبلد الحاضن للدعوة الجديدة فلولا أن وجد الرسول مكانا يهاجر إليه بعد تصاعد موجة العداء في مكة للدعوة الجديدة لما تمكن الإسلام من يشتد عوده وعامل النصرة الذي لقيه المهاجرون في قبيلتي الأوس والخزرج اللتين شكلتا الحاضنة للإسلام مكنه من أن يصمد وينتشر وأخيرا عامل الإيواء الذي لقيه المهاجرون من قبل سكان المدينة الذين تقاسموا معم كل شيء حتى أموالهم وتجارتهم وجعلوا منهم إخوة لهم في عملية تحالف كبرى جعلت من المسلمين بفضل الأنصار قوة سياسية إلى جانب قوتهم العسكرية لكل هذه العوامل رجح الانصار أنهم هم الأولى بتسلم القيادة السياسية على المسلمين. لكن هذه المؤامرة التي قادها الأنصار لتسلم السلطة الزمنية في محاولة لحسم مسألة الحكم مبكرا ومن قبل أن يدفن الرسول قد قابلتها مؤامرة أخرى على ما تقول هالة الوردي قادها المهاجرون الذين كانوا هم بدورهم يفكرون في كيف يجعلون الزعامة السياسية على المسلمين في واحد منهم وقد رتبوا الأمور بشكل يجعل من مسألة تولى السلطة لا تخرج عن القرشيين القبيلة العربية التي تحملت كل الأذى في بداية الدعوة بما يجعل من الصورة التي تقدمها الكاتبة لما سوف يحصل من نقاش في السقيفة عل أنه صراع مؤامرات وصراع مصالح و احتلال مواقع ونفوذ سياسية تختفي فيها كل الاعتبارات الدينية وكل القيم التي رسخها الإسلام بما يجعل حسب هالة وردي من الوحدة الاسلامية التي تشكلت بين المهاجرين والأنصار وحدة هشة سريعا ما تصدعت بمجرد الإعلان عن موت الرسول صلى الله عليه وسلم. تقول هالة الوردي ما إن بلغ العلم إلى عمر بن الخطاب الذي كان متواجدا في المسجد مع المهاجرين بأن الأنصار على وشك تنصيب وتعيين وإعطاء البيعة لواحد منهم وهو سعد بن عبادة قبل أن يتشاوروا معهم في الأمر بعد أن عين جاسوسا له في السقيفة حتى يأتيه بالأخبار ويعلمه بما يدور فيها أولا بأول حتى أسرع طالبا أبا بكر الصديق الذي كان مع النبي في الغرفة التي توفى فيها من دون أن يدخل إلى البيت حتى لا يشرك أهل البيت فيما يخطط له مع شريكه في المؤامرة المضادة التي شرع في تنفيذها . في ملاحظة أولى حول هذا الكلام هو أن الوردي تنقل خبرا مفاده أنه في الوقت الذي كان فيه اجتماع السقيفة بين الانصار كان هناك اجتماع ثان في المسجد بين المهاجرين بما يعني حسب رأيها بأن الكل يتآمر على الكل وبأن الجميع يفكر في كيفية تسلم السلطة وتحويل وجهتها نحوه في عملية تجسس كبرى من طرف المهاجرين والأنصار على ما يدور في المدينة في الوقت الذي بقى فيه أهل بيت الرسول مع النبي في غرفته على حد قولها مع فارق وحيد وهو أن الانصار لم يقدروا قدرة المهاجرين على كشف اللعبة وما يدور في السقيفة في زمن قياسي من طرف القرشيين . تقول هالة الوردي بعد أن التحق أبو بكر الصديق بعمر بن الخطاب ومن كان معه من المهاجرين قال له وماذا نفعل في الرسول صلى الله عليه وسلم وأهله خاصة وأن عليا بصدد الشروع في غسله قبل دفنه فأجاب عمر : " دع أهله يعتنون بغسله ونحن لنا أمر أهم وأخطر " بهذا القرار تنتقل بنا هالة الوردي إلى مشهد السقيفة لتنقل لنا قراءتها للأحداث وما تقول عنه أنه صراع قد حصل في الإسلام المبكر من أجل السلطة وفي إشارة إلى بداية تنفيذ المخطط الذي رسمه عمر بن الخطاب بمفرده وقرر هو بنفسه منذ البدء أن تكون السلطة لأبي بكر الصديق وأن لا يخرج الحكم عن قريش القبيلة الكبرى من بين قبائل العرب. ومنذ هذه اللحظة تقول الوردي تبدأ فصول المسرحية السياسية التي سوف تشهد أحداثها ووقائعها سقيفة بني ساعدة بعد أن يلتحق الصحابي عبيدة بن الجراح بالجماعة وبطلب من عمر وقد كان وقتها منشغلا بتكليف مباشر من أهل بيت الرسول بحفر قبره فامتنع أول الأمر قبل اأن يلتحق باجتماع السقيفة وبعد أن اطلعه عمر على خطورة الأمر وبعد أن تنسب الكتابة إلى عمر قوله مخاطبا إياه : " لا عليك دعهم يتدبرون الأمر بأنفسهم ولا تقلق " وبهذا القرار خلف أبو طلحة عبيدة بن الجراح في مهمة حفر قبر الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أصبح المكلف بهذه المهمة وبهذا الالتحاق تكون ثالوث مؤثر سوف يقود مهمة الحسم في الحكم والسلطة في السقيفة . تصف هالة الوردي المشهد في السقيفة بعد أن التحق المهاجرون بقيادة عمر وأبي بكر الصديق وعبيدة بن الجراح ما نقله الشاعر أبو ذؤيب الهذيلي الذي حضر هذا اللقاء التاريخي و نقل ما حصل من تشنج وتوتر وتبادل للمواقف العنيفة والآراء والمقترحات في جو محتقن يخيم عليه الصراخ والعراك إلى حد التدافع والتهديد برفع السيوف واستعمال الضغط والمساومات وصل الى حد تبادل العنف والتشابك بالأيدي من دون أن تقدم دليلا او شاهدا يحيل على أي رواية تفيد ذلك وحرص كل فريق على أن تكون الغلبة له وأن يكون الحسم لصالحه وأن تكون الحجة معه . تواصل هالة الوردي في وصف ما دار في السقيفة فتقول بعد نقاش طويل وبعد محاولة الترضيات المتبادلة والمتمثلة في أفكار ومقترحات لتسوية موضوع الحكم لخصت في فكرة " منا أمير ومنكم أمير " التي لم يقبل بها المهاجرون بحجة أن الحكم لا يقسم و فكرة " نحن الوزراء أي الانصار وأنتم الأمراء أي القراشيين " المقترح الذي تم رفضه كذلك من طرف القرشيين لاعتبارات خاصة بطبيعة تركيبة الانصار وحالة عدم السلم والاستقرار التاريخي الذي عرفته قبيلتي الأوس والخزرج قبل إسلامهما وقبل انصياعهما لقيادة الرسول في هذه اللحظة تلقف أبو بكر الصديق المبادرة السياسية من وراء عملية تحايل على الاجتماع ومسرحية اتفق عليها مسبقا مع عمر وعبيدة بن الجراح غايتها إقصاء الانصار وإبعادهم من سباق السلطة وتحويل الأنظار نحو تصور آخر وحصر المسألة في الخيار القرشي القرشي فحسب فصول هذه المسرحية التي انطلت على الأنصار ولم ينتبهوا إليها تبدأ بتقدم أبي بكر الصديق آخذا بيد عمر بن الخطاب وبيد عبيدة بن الجراح وتوجه إلى الانصار قائلا لهم : " اقبلوا واحدا من الاثنين ". بهذا الحل وهذه الخديعة جعل الصديق الخيار السياسي منحصرا في المهاجرين لا غير عندها تقول الوردي تعجب الجميع من هذا المقترح المفاجئ وقالوا ماذا يفعل أبو بكر أليس هو من يخلف الرسول ؟ وقد كان موقف الأنصار هذا هو أحد فصول المسرحية المدبرة وكان هو المقصد من تقديم عمر بن الخطاب وعبيدة بن الجراح عندها تقول الوردي : اثر ذلك تدخل عمر وقال الخليفة القادم هو أبو بكر الصديق انت أفضلنا والرسول فضلك علينا " تظاهر أبو بكر بعدم سماع كلام عمر وعدم الانتباه إلى مقصده وقال له عمر اعطني يدك أبايعك بهذا السلوك من عمر وبتبادل النظرة الخفية بين الرجلين وبهذه المسرحية التي لم يتفطن اليها الانصار عرف النقاش انحرافا واخذ اتجاها اخر انها لعبة لعبها هؤلاء الثلاثة قد حبكت جيدا بينهم .. لقد كان أبو بكر الصديق يعلم من قبل أن يدخل إلى السقيفة أنه الخليفة المرتقب وكان عمر قد رتب عملية انتقال السلطة من الرسول إليه.. لقد فعل عمر كل ما في وسعه وبنوع من استعمال القوة والنفوذ حتى يكون الجميع امام خيار ما حصل يقول " هذا ابو بكر اكبرنا فلنعطه البيعة " إن الخطير في هذه السردية الجديدة التي تقترحها هالة الوردي تاريخا صحيحا للمسلمين ولكل ما حصل في سقيفة بني ساعدة من أحداث مؤثرة في موضوع الحكم وتسلم السلطة بعد وفاة الرسول في كون كل ما قالته لا يعدو ان يكون انطباعا شخصيا الغالب فيه لا يستند إلى روايات تاريخية ولا يخرج من دائرة الاستنتاج الصادم الذي نقف فيه على صورة سيئة للمسلمين الأوائل هم من خيرة الصحابة بشهادة القرآن نفسه من دون دليل علمي تحكمهم صفات وطباع النفاق والتآمر والخيانة والعمالة والتجسس على بعضهم البعض وتوجيه اتهامات خطيرة بحق أبو بكر الصديق متهمة إياه بكونه قد قاد مسرحية محبوكة الفصول على الحكم والسلطة باستعمال الحيلة والخداع حبك فصولها عمر بن الخطاب الذي خطط لكل شيء من أجل أن يجعل الحكم لا يخرج من قريش ولا ينزاح إلى الانصار وقد رتب كل ذلك في اجتماع التأم في المجسد في نفس اليوم والوقت الذي كان فيه الانصار مجتمعين في السقيفة مع عبادة بن الصامت وقد كان عمر قد قرر بنفسه ومن دون استشارة من أحد أن يجعل أبا بكر الصديق هو الخليفة الجديد. كما تصور كل ما حصل في السقيفة بمؤامرة أولى حيكت ضد آل البيت بعد تعمد ترك علي بن ابي طالب والعباس في بيت الرسول وإقصائهم من المشاركة في لقاء السقيفة ومؤامرة ثانية ضد الانصار بإبعادهم من سباق السلطة مدعومة بخيانات قد حصلت من الأنصار أنفسهم ضد بني وطنهم من الأوس والخزرج من طرف الصحابي أسيد بن خذير وكان سيدا في قومه وكان يلقب بالكامل لرجاحة عقله وقد كان موقفه حاسما في السقيفة بعد أن مال إلى موقف عمر وانحاز نحو الصديق ليكون هو الخليفة على المسلمين في عملية تقول عنها الوردي بأنها تصفية حساب قديمة مع سعد بن عبادة الذي سبق ان اتهمه في حادثة الافك الشهيرة التي نالت من شرف السيدة عائشة زوج الرسول صلى الله عليه وسلم . وللحديث بقية