كان السؤال الذي ظلّ يلازمني وأنا في باليرمو هو هل (أهجّ) نهائيا؟.. وهل لا أعود من حيث أتيت؟.. وهل أقطع تماما مع كل الذي كان؟.. ثم تساءلت وهل هناك ما يمكن أن أتأسف عليه؟.. هل سأتأسّف على «البيصارة» التي «قطعت مصارني»؟.. لقد كنا في البيت لا نأكل الأسبوع تلو الأسبوع.. والشهر تلو الشهر إلا القليل من «البيصارة».. والقليل من الخبز البايت الذي تخصصت في شرائه وأصبحت أعرف الخبزة (الطريّة) والتي يبدو وكأنها خبزة اليوم.. أما لماذا «البيصارة» بالذات.. فلأنها أرخص ماهو موجود.. فبحفنة من الفول المصري.. وبقليل من الطماطم و«عشورية» زيت يمكن إحضارها.. وقد يحدث أحيانا ان حتى «البيصارة» لا نحظى بها! وأنا في باليرمو كنت أحاول أن أهرب من كل شيء.. كنت أحاول أن أهرب من «البيصارة».. من «الميزيريا».. من الكلاب التي كانت تطاردني في الحومة.. من قهر الظروف.. من خيبتي في التعليم.. من دموع أمي التي تكاد لا تتوقف!.. من الفراغ الرهيب الذي يدمّرني!.. من الخوف الذي يلاحقني!.. كل حياتي كنت أريد أن أهرب منها!.. وعندما أستعرض كل ما كان يحيط بي.. وعندما أتذكر شعوري بأن البلاد ليست بلادي.. وبأنني لاجئ أجنبي ليس له الحق في الإقامة.. وبأنني أعيش في القاع.. عندما أستعرض كل ذلك أسمع ذلك الصوت الذي يخاطبني من داخلي وهو يحثّني على عدم العودة.. وعلى «الحرقان».. وعلى البحث عن حياة بديلة في باليرمو.. أو في أي مدينة أخرى بإيطاليا.. كنت أتسكّع في باليرمو فأرى الناس يعيشون حياة أخرى غير التي تركتها خلفي.. وعندما كنت أراهم يتنزهون.. ويتبضعون.. ويجلسون في المطاعم والمقاهي.. وينتقلون بواسطة سياراتهم الخاصة.. كنت أتساءل: كيف أتيح لهم ذلك ونحن في حومتي (نشهق ما نلحق).. ولا شيء عندنا مما عندهم.. ولا مقارنة مطلقة بين ما هم عليه وما نحن عليه؟! ولم أفهم.. فلقد كنت صغير السنّ.. غير ناضج.. ومن يراني يستغرب من وجودي وأنا لا حول لي ولا قوة أتسكع في شوارع باليرمو.. وأبحث عن اليقين في مدينة قد لا تؤمن باليقين.. وكانت بداخلي عواصف وزوابع هائجة مائجة تكاد تعصف بي.. وعندما أنهزم في مقاومة ما كان يجري بداخلي أتجه ببصري الى السماء وأخاطب الله فأقول له: يا ربّ لماذا خلقتني؟.. ولماذا جئت بي إلى هذه الدنيا؟.. ولماذا تتركني أتعذّب.. ولماذا تترك أمي تتعذّب؟.. ولماذا لا تأخذنا.. وتعيدنا من حيث أتينا..؟ يا ربّ خذني أنا وأمي إليك؟! وأظل متعلقا بالسماء.. أنظر وأنظر.. وأتأمل.. وأبحث عن الله.. فلقد كنت أظن بحكم سني أن الله يقيم بين السحب في السماء.. وكنت أتوقع أن أراه.. وكنت أشعر بداخلي أنه قريب مني يسمعني ويتجاوب معي.. وأظل أنتظر لساعات لعلّني أراه أو أن يأتيني منه الجواب.. ولكنه لا يأتيني.. ومع ذلك كنت لا أفقد الأمل.. فأعود الى التأمل في السماء.. والدخول في مناجاة مع الله ومع أنني لم أكن أظفر بجواب فإنني كنت أشعر بشيء من الارتياح فتهدأ العواصف قليلا بداخلي.. وأنسى همومي.. ولكن ماهي إلا فترة حتى يستبد بي سؤال (هل أهجّ).. وهو سؤال قديم جدا اذ يبدو أنه ولد معي ولم أكن أتصوّر مطلقا أنه سيصاحبني في كل مراحل عمري ويبقى يلازمني حتى وأنا في خريف العمر.. وقديما كان الفيلسوف الفرنسي ديكارت يقول: «أنا أفكر.. إذن أنا موجود».. وبما أنني لم أتعلم كيف أفكر ولا أفكر أصلا ولم أر في حومتي من يفكر فإنني كثيرا ما تصوّرت أنني غير موجود.. إذن.. وبما أنني غير موجود فلماذا سأترك باليرمو.. وأعود الى بلاد أنا غير موجود فيها؟! ثم أتخيّل أحيانا أنه من حقي أنا كذلك أن أقول أنا «أهجّ» إذن أنا موجود ولكن بما أنني لم «أهجّ» فأنا اليوم غير موجود!!!