قد يكون من غير المعقول محاسبة أي حكومة أو برلمان، قبل أن يبدأ العمل والإنجاز، ولكن ما يجري اليوم في تونس يدفع المواطن إلى مثل هذه المجازفة.. فنحن ننام ونصحو اليوم على كل التجاوزات تقريبا، تجاوزات في الخطاب السياسي، ومغالاة في الوعود من قبل الأحزاب ورجال السياسة، إلى درجة السخرية من إنعدام المصداقية في قول الشيء المعاد، والإستخفاف بعقول الناس. فيكفي أن تقف صباحا تبحث عن تاكسي لقضاء شؤونك، ثم تنتظر مطولا، حتى تقف على حال البلاد الحقيقية، فتلمس بسرعة مدى التوحش الذي أصبح عليه الشارع التونسي في القول وفي الفعل، فتسمع ما لا يرضيك، وتشعر بالغبن والعجز في مواجهة المغالاة والتحدي الأهوج والتجاوزات بأنواعها، في المعاملات والأسعار وحتى عندما تخترق الشارع إلى الضفة الأخرى دون أن تنسى تضع كفنك على كتفك، أو تسمع ما لا يرضيك. فطلبي اليوم هو بسيط من مواطن عادي، هو أن يكفّ السياسيون والوزراء والأحزاب عن التصريحات والعنتريات وبذاءة القول والفعل.. طلبي الملح هو التوقف الكلّي عن إطلاق الوعود والتركيز على العمل بصمت وجدّ حتى يتوصل الجميع إلى تعبيد الطريق إلى قلوب الناس وعقولهم.. إنني أطالب من موقعي كمواطن عادي لا يرغب في منصب، أو الفوز بإعجاب أو منفعة من أحد، صرختي اليوم هي الدعوة إلى عودة الوعي، للمسؤولين، على كل المستويات، لإنقاذ ما تبقى من حلم الدولة الحديثة وواقع الوطن المريض حتى يعود بيتا آمنا لجميع أبنائه. إن الأمن في الشارع وفي حياة الناس هو مفتاح الحل لكل مشاكل بلادنا، يجب أن لا نستهين بهذا التوحش المتفشي اليوم في سلوك التونسيين بكل طبقاتهم تقريبا، فأنت تراه في سلوك من يركب الرصيف بسيارته الفارهة القوية ويتجاوز كل الصفوف ليحرق الضوء الأحمر أمام الجميع وكأنه لا يرى أحدا.. وتراه أيضا في عداء النظرة الحاقدة والقول الجارح أحيانا من سائق التاكسي أو الحافلة أو السيدة الأنيقة التي تتجاوزك بإحتقار، وكل يتفحصك وكأنه سوف يشتريك ويفرض ثمنه عليك.. إن الحديث عن الديمقراطية في تونس أصبح نكتة سخيفة جوفاء، وذلك في غياب فرض القانون والردع الصارم لكل التجاوزات التي وصلت حد الجريمة الشائعة.. إن المواطن اليوم أصبح مستعدا للتضحية حتى لو أكل مرة واحدة في اليوم من أجل أن يعود الأمن لأبنائه وعائلته والشارع أمام بيته وفي المدرسة وعند الحلاّق وفي المستشفى.. لقد كره التونسيون السياسة والأحزاب والبرلمان والوزراء والصحافة وكل الشعارات البراقة والخطاب الكاذب.. لذلك فكرت في كتابة هذه السطور قبل أن يدخل وزراء الحكومة الجديدة إلى مكاتبهم صبيحة اليوم الأول من العهدة الجديدة. وأنا على وعي بأنني قد لا أتمكّن من التعبير اللازم وبالحرارة اللازمة عن أولوية الأوليات عند التونسيين في بلادنا اليوم، لأن الأمر يتصل بإعادة فرض الأمن بكل أنواعه على سلوكنا جميعا وحياتنا فيما بيننا وحتى مع أنفسنا. إن " الأمن الإجتماعي" الذي يقر الناس أنه إنهار في السنوات الأخيرة كان سببه تفشي كمية الأحقاد المتراكمة والعنتريات النقابية والأيدولوجيات الجوفاء دون أن يكّلف أحد نفسه ويلتفت إلى تكّدس المزابل في شوارعنا، وإهتراء الأرصفة والسدود في المدن والأرياف، وإستشراء الإجرام في أغلب الطبقات والأجيال على السواء. إن الإقرار بإهتراء سلطة الدولة وإزدهار المدارس الخاصة الذي أنهك العائلات التونسية على حساب التعليم العمومي المنهار، وهجرة الكفاءات العالية، والتصحر المتزايد للأراضي الفلاحية وتفشي المخدرات حتى وصلت إلى ساحات المدارس ولا من مغيث.. لذلك لا يمكن لي أن أتحدث بكل مسؤولية عن الثقة في السياسيين وهواة الزعامة ونهب الثروات السهلة، وفي نفس الوقت أستمع إلى حد التخمة، إلى خطاب "مقاومة الفساد والحوكمة الرشيدة" دون أتذكّر ذلك المثل المصري الشائع "أسمع كلامك يعجبني، أشوف أمورك أستعجب.."