إنّ باريس: هي أمّ العواصم الغربية كما توصف، لم تَتَخَلْخَل حياتها النابضة، ولم تُقفل بالكامل أسواقُها الأسبوعية، ومحلّاتها التجارية، ومطاعمها الشهية، وفنادقها السياحية، وحدائقها الطبيعية، ومنتزهاتها الإغْرائِية، يوما ما منذ العصور الماضية، والقرون الخالية، إلّا هذه الآوِنَة، في زمن تفشّي وباء (كورونا).. باريس ذات الجمال، المتمثلة في أُبَّهَتِها، وفي أنواع أزيائها، وعبق عطورها، وتنظيم كلّ شيء على أرضها، هاهي اليوم تتوقّف فيها: السيّارات الفارهة، وغير الفارهة، من السيْر ذهابا وإيابا في النهار أو الليل على طول شوارعها الضخمة والفخمة، تُجَلِّلُها الفوانيسُ المعلَّقة بأعمدتها المُتَرَاصَّة على الأَرْصِفة، وبألوانها الزّاهية؛ وحتى المارَّة والمُشاة فقد اخْتَفَوْا نهائيّا، بل حتى إنّ جادَّتها الشهيرة والمزدحمة غالبا، قد خلت أيضا، وهي "جادَّة الشَّانْزِلِزيه"، والتي ما رأتْ العينُ قطّ مثلَ بِناياتها، ولا محلّاتها، ولا منتزهاتها باريس ذات الجمال، أصبحت اليوم تحكي صمتَ القبور، فلكلّ غدَا فيها: الحجَر والبشر، في حداد مستمر، وحُزْن مُنْهَمِر؛ حتى أنّ "بُرْج إِيفِل" ذو المنارة السامقة، والعلامة الشاهقة، الضاربة إلى عَنان السماء، قد أغلق مصاعدَه، وأطفأ أضواءه، سوى بعض أنوار تضيء بمعدّل مرّة في الأسبوع، عند الساعة الحادية عَشْرة ليلا. باريس ذات الجمال: عاصمة الحضارة.. والأناقة.. والثقافة.. استنكرت على غير عادتها – وليس تنكّرت – غيابَ زُوّارها من أنحاء العالم، وهم من الكثرة، بحيث يتجاوزون (عشرة ملايين) زائر في السنة. لكنّها، الإجراءات والتعليمات الصارمة، التي أوقعتها "السلطات" ونفذتها بكلّ حزم، هي بدورها قد ضربت بتلقائية "تَوْقا" من "الحجْر الصحي"، لم يكن في الحسبان عند الإنسان، حتى أنّه شمل مداخل باريس وأبوابها: مِن وإلى، باستثناء بعض الضرورات، التي تُبيح المحظورات. إنّ هذا الإلزام المُعَمَّمَ، ليس في باريس وحدها، وإنّما تعدّى إلى غيرها من سائر المدن، بما فيه مرافق المجتمع الحيويّة، وأفراد الشعب التّائق إلى الحرية، وبتالي غَدَت جميع الأجواء بِقاعَ أشْباح، وفضاءات أحزان، وكأنّها بَيْداء، خَلَتْ من الحياة والأحياء: وهذا شاعر باريس يتغنّى تحيّةً ووفاءً بهذه الأبيات: Paris sera toujours Paris ! La plus belle ville du Monde Malgré l'obscurité profonde Son éclat ne peut être assombrit Paris sera toujours Paris ! ومنذ قرون مضت كتب رِفاعة الطهطاوي (إمام البعثة العلمية المصرية) عن عظمة باريس ومشاهداته فيها، وقد خلّدها في كتابه الشهير: (الإبريز).. وعلى أَثَرِهِ، كتب أيضا محمد السَّنُوسي (الحاكم بمحكمة الوزارة التونسية) كتابَه الجليل – حين حضر إلى باريس مشاركا وممثّلا في معرضها الدَّوْلي سنة (1307ه=1889م) بعنوان (الاستطلاعات الباريسيّة).. وختاما، فقد صدق الله مولانا العظيم، إذ قال وهو أصدق القائلين: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ • وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلَالِ وَالإِكِرَام﴾