لقد قرات مقال صديقي نوفل سلامة عن ابن سينا والحجر الصحي والتباعد الاجتماعي) فاستوقفني قوله(... وتساءلت حول علاقة ما قاله ابن سينا في كتابه الشفاء بما اورده ابن خلدون في مقدمته وهل هناك فرضية ان يكون ابن خلدون قد تعرف على ما وصل اليه ابن سينا في موضوع العمران البشري واخذ عنه الفكرة والتصور وحينئذ نكون امام مسالة خطيرة وهي ان ابن خلدون قد يكون اخذ فكرة ان الانسان مدني بطبعه وبانه يختلف عن الحيوان وفي كونه كائنا اجتماعيا من ابن سينا من دون ان يشير الى ذلك)(انظر صالون الصريح بتاريخ20/5/2020) إذن يفترض اخونا نوفل سلامة ان يكون ابن خلدون قد تعرف على ما وصل اليه ابن سينا واخذ عنه فكرة وتصور العمران البشري وبنى على هذا الافتراض ان ابن خلدون ليس صاحب فكرة القاعدة المشهورة (الانسان مدني بالطبع) وانه يختلف عن الحيوان الى اخر ما كتبه ابن خلدون في الفصل الأول من مقدمته بل قد يكون نقل وقد اخذ ذلك من ابن سينا دون ان يذكر لقرائه هذه الحقيقة ودون ان يشير اليها... ولما كانت هذه المسالة او هذه التهمة خطيرة وتثير اهتماما كما ذكر ذلك صديقي نوفل سلامة ولما كانت المسائل الفكرية الخطيرة تتطلب من الباحثين تظافر الجهود للوقوف على الخطا الشائع ان كان هناك خطا والمسارعة بتداركه ان امكن حتى يوضع له حد نهائي وحتى يتبين المؤرخون الخيط الأبيض من الخيط الأسود في الموضوع فقط هرعت واسرعت لتجديد النظر في كتاب المقدمة الخلدونية علي اجد خيطا يوصلني الى حل او شبه حل تطمئن له النفوس في هذه المسالة او هذه القضية فماذا وجدت ايها القراء بعد شيء من الجهد دون ان يبلغ والحق يقال مبلغ التعب ودرجة العناء؟ لقد وجدت ان ابن خلدون رحمه الله قد اجاب بنفسه عن هذه المسالة واراح القراء والباحثين من الحيرة والشك في امره وقد تبين لي في شيء من اليقين ان اغلب الذين اثاروا هذه الشك وهذه المسالة لم يقرؤوا جيدا مقدمة المقدمة بل انطلقوا مباشرة في قراءة فصلها الأول وهو كما عنون له صاحبه(في العمران البشري على الجملة وفيه مقدمات ) ولكنني اريد قبل ان انقل للقراء جواب ابن خلدون في تبرئة ساحته من تهمة النقل والتقليد والأخذ عن غيره كما قد يتصور ذلك المشككون قلت اريد ان الاحظ ملاحظة قد غابت عن كثير من المتحدثين عن مقدمة بن خلدون اذا اننا كثيرا ما نسمعهم يقولون( الانسان مدني بالطبع كما قال ذلك ابن خلدون) والحقيقة ان هناك خطا شائعا في هذا الكلام فلو عدنا الى السطرين الأولين من مقدمة ابن خلدون في فصلها الأول لوجدنا ان الرجل يقول بكل دقة وبكل امانة( الأولى في ان الاجتماع الانساني ضروري ويعبر الحكماء عن هذا بقولهم (الانسان مدني بالطبع)... فواضح اذن من هذا النص الخلدوني التاريخي ان ابن خلدون كان امينا ولم ينسب هذه المقولة الشهيرة لنفسه وانما نسبها الى تعبيروقول الحكماء فلا بد من الانتباه الى هذا الأمر وهذه الحقيقة الثابتة خاصة في احاديث وفي كتابات الباحثين والمؤرخين والدارسين الأمناء امر بعد هذه الملاحظة الى ما كتبه ابن اخلدون في الرد على من شكوا انه كان من السابقين حقا ومن المخترعين لعلم العمران البشري فقد كتب بصريح وفصيح قلمه ليقول(... وكان هذا العلم مستقل بنفسه فانه ذو موضوع وهو العمران البشري والاجتماع الانساني وذو مسائل ...واعلم ان الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة غريب النزعة غزير الفائدة اعثر عليه البحث وادى اليه الغوص وليس من علم الخطابة ...ولا هو من علم السياسة المدنية فقد خالف موضوعه هذين الفنين اللذين ربما يشبهانه وكانه علم مستنبط النشاة ولعمري لم اقف على الكلام في منحاه لاحد من الخليقة ما ادري ألغفلتهم عن ذلك وليس الظن بهم او لعلهم كتبوا في هذا الغرض واستوفوه ولم يصل الينا فالعلوم كثيرة والحكماء في امم النوع الانساني متعددون وما لم يصل الينا من العلوم اكثر مما وصل... وانت اذا تاملت كلامنا في فصل الدول والملك اعطيته حقه من التصفح والتفهم عثرت في اثنائه على تفسير هذه الكلمات وتفصيل اجمالها مستوفى بينا باوعب بيان واوضح دليل وبرهان اطلعنا الله عليه من غير تعليم ارسطو ولا افادة موبذان ونحن الهمنا الله الى ذلك الهاما واعثرنا على علم جعلنا بين نكرة وجهينة خبره فان كنت قد استوفيت مسائله وميزت عن سائر الصنائع انظاره وانحاءه فتوفيق من الله وهداية وان فاتني شيء في احصائه واشبهت بغيره فللناظر المحقق اصلاحه ولي الفضل لانني نهجت له السبيل واوضحت له الطريق والله يهدي بنوره من يشاء...) اوليس واضحا جليا من ملخص هذا الكلام ان ابن خلدون يصرح بكل ثقة وثبات بل ويقسم انه لم قرا كتابا قد كتب ولم يعلم كلاما قد قاله احد قبله في منحى وفي اتجاه وفي معنى وفي مغزى ما كتبه في مقدمته وانه قد راى في بيان سبب وعلة ذلك احتمالين احدهما قد يكون بسبب غفلة من سبقوه عن التفكير وعن الكتابة في هذا العلم المستحدث وثانيهما وهو الأرجح عنده انه قد يكون هناك من سبقوه في هذا العلم واستوفوه ولكن لم يصل اليه من ذلك شيء يذكر كما انه يصرح انه لم يستفد في استنباط العلم الذي استنبطه والذي اخترعه لا من علم ارسطو ولا من افادة الموبذان ونزيد نحن فنقول بالتبعية الطبيعية ولا مما كتبه بان سينا الذي سبقه في ايام الزمان بل ان الله تعالى الهمه ذلك العلم الجديد غير المسبوق الهاما واعثره وانعم به عليه اعثارا وانعاما ومهما كان مبلغ فشله في نشر هذا العلم الجديد فله الفضل على كل حال في انه كان اول من انتهج سبيله واول من واضح للناس طريقه اما اذا كانت الثانية وكتب لعلمه المستحدث الجديد النجاح والفلاح وهو ما حصل فعلا وما وقع فذلك توفيق من الله وهداية منه عز وجل والله يهدي بنوره من يشاء... فخلاصة ونتيجة هذا الكلام ان ابن خلدون لم يسبق الى هذا العلم الجديد ولم يسمع به الناس قبله لا من قريب ولا من بعيد وها ان ابن خلدون قد نجح وقد اشتهر بين الناس باستنباط وباختراع علم الاجتماع وها ان العلماء قد انتفعوا بعلمه الجديد ايما انتفاع وها انه لم يستطع احد الى اليوم ان يثبت ان ابن خلدون كان في هذا العلم من المقتبسين ومن المقلدين ومن المسبوقين ومما لاشك فيه لدى العقلاء ان شهرته الكبيرة التي فاقت تقريبا شهرة اغلب من جاؤوا قبله واغلب من جاؤوا معه واغلب من جاؤوا بعده من العلماء وانه لمن الصعب ان نجد ان عالما من العلماء قد اقترن اسمه بعلم من العلوم كما اقترن اسم ابن خلدون منذ قرون بعلم العمران البشري وعلم الاجتماع الانساني كما لا نظن ايضا ان هذا الاقتران سينتهي في يوم من ايام الزمان ولا نظن انه سيجد المتشككون مهما بحثوا ومها فتشوا شخصا واحدا قد سبق ابن خلدون و تقدم عليه في اختراع هذا العلم ولا نظن ايضا انهم سياتون في اثبات ذلك ما يجب عليهم الاتيان به من الدليل والحجة والبرهان.