خلف الاتصال الهاتفي الذي أجراه مؤخرا راشد الغنوشي رئيس مجلس النواب مع فائز السراج رئيس حكومة الوفاق الوطني الليبية المعترف بها دوليا لتهنئته بالانتصارات العسكرية التي حققتها قواته في الآونة الأخيرة على قوات المشير خليفة حفتر وتوسعها في أراضي كانت تحت سيطرة قوات الجيش الوطني الليبي بعد أن تم استرجاع قاعدة الوطية العسكرية التي تكتسي أهمية استراتيجية ردود فعل متباينة واختلاف في الموقف داخل الساحة السياسية و الإعلامية التي انقسمت كالعادة بين مؤيد لهذه الخطوة التي اعتبرها البعض في الاتجاه الصحيح وتماهيا مع الموقف الرسمي للدولة التونسية من الصراع الليبي والذي كان منذ عهد المرحوم الباجي قايد السبسي مع الشرعية الدولية حيث لم يحصل أن استقبل الرئيس الراحل خليفة حفتر في حين حظي السراج باستقبال رسمي ما فهم منه انحياز غير معلن لأحد طرفي النزاع الليبي، وبين رافض لهذا الاتصال الذي اعتبره رافضوه ومنتقدوه خطوة في الاتجاه الخاطئ ومراكمة للأخطاء السياسية التي يرتكبها راشد الغنوشي في الملفات الخارجية وتدخله في جوانب ليست من مهامه وإنما هي من مشمولات رئيس الدولة الممثل الوحيد للدولة التونسية على المستوى الخارجي خاصة وأن ما قام به رئيس مجلس النواب حسب هذه الأطراف الرافضة قد وضع تونس في قلب المحور القطري التركي في مواجهة الحلف الإماراتي السعودي المصري وانتقل بالسياسة الخارجية من الدبلوماسية المحايدة التي دأبت عليها الدولة التونسية منذ الزعيم بورقيبة إلى دبلوماسية المحاور والأحلاف ما يذكر بما قام به المرزوقي. فهل أخطأ الغنوشي بهذا الاتصال ووضع البلاد في وضعية غير سليمة ومريحة سياسيا ؟ أم أنه اتخذ الموقف الصحيح في علاقة بالمصلحة الوطنية بعد قراءة جيدة للوضع الليبي الداخلي والتحولات الإقليمية المتحركة ؟ بعيدا عن الجدل الذي يطرحه البعض حول شرعية ما يقوم به راشد الغنوشي من اتصالات خارجية ولقاءات مع بعض الشخصيات والزعامات السياسية الدولية والإسلامية وهي مسألة أخرى تحتاج أن نعود إليها فإن السؤال الذي وجب طرحه ويكتسي أهمية كبرى هو هل تحتاج الدولة التونسية في الوقت الحاضر إلى موقف متسرع مما يحصل من صراع داخل ليبيا ومن تطورات في الأحداث وانقلاب في موازين القوى لصالح السراج وما يعرفه حفتر وقواته من تراجعات كبرى بعد أن منيت بهزائم متتالية؟ وهل من مصلحة البلاد اليوم أن تعلن ولو ضمنيا عن موقف من النزاع الليبي؟ أم أن المصلحة تقتضي أن نبقى على الحياد السلبي ونكتفي بالمراقبة في الوقت الذي بدأت فيه جهات خارجية أخرى تعلن عن موقف واضح من الصراع الدائر بين السراح وحفتر؟ ما يمكن قوله بخصوص الاتصال الأخير الذي أجراه راشد الغنوشي رئيس مجلس النواب مع الطرف الليبي المعترف به دوليا و الذي يحضا بدعم واعتراف من المجتمع الدولي قد فهمه بعض المحللين السياسيين والضالعين في الملف الليبي وخفايا الصراع الداخلي موقفا سليما كان على رئيس الجمهورية اتخاذه قبل أن يتخذه راشد الغنوشي وهو موقف يقوم على قراءة سليمة وصحيحة للتطورات الاقليمية والدولية من النزاع الليبي لا يمكن تحليله على أنه إنحياز لأحد أطراف الصراع ولو أنه في الظاهر يبدو ميلا إلى المحور القطري التركي في مقابل المحور السعودي المصري الإماراتي وذلك لاعتبارات عدة قد تغيب عن الجانب الذي يرفض تأييد السراج من مطلقات ايديولوجية حزبية لا علاقة لها بما تمليه المصلحة الوطنية ولا تفرضه دبلوماسية الحياد الإيجابي. من المعطيات التي تجعل قراءة الغنوشي سليمة هي تعاقب الهزائم التي تكبدتها قوات المشير خليفة حفتر على أرض الميدان و التي تجاوزت الخسائر البشرية وفقدان معدات عسكرية هامة للغاية وما يحصل من تراجعات عسكرية مؤلمة في أرض المعركة إلى خسارة الكثير من المدن التي كانت تحت سيطرته مع ما صاحبها من تفكك لجبهته الداخلية وانقسام تحالفاته على مستوى بعض القبائل والميليشيات والمرتزقة التي بدأت تفكر في مرحلة ما بعد حفتر وما صاحب كل ذلك من مؤشرات عن تراجع الدعم الخارجي في مصر وفرنسا وإيطاليا وحتى الحلف الأطلسي والولايات المتحدةالأمريكية حيث يبدو أن حلفاء الخارج بدؤوا يغيرون من موقفهم تجاه المشير خليفة حفتر بعد سلسلة الأخطاء التي ارتكبها وآخرها كان إسقاط اتفاق الصخيرات السياسي لعام 2015 الذي كان سيفضي إلى حل سياسي للصراع واستعادة ليبيا لوحدها الترابية والسياسية ورفضه المشاركة في مفاوضات موسكو لوقف إطلاق النار وانسحابه من هذه المبادرة ما أغضب الطرف الروسي الذي حمل المسؤولية في إفشالها إلى المشير حفتر كل هذه الأخطاء وغيرها كثير جعلت المجتمع الدولي يغير نظرته للصراع ويحول وجهته بالكلية نحو حكومة الوفاق الوطني برئاسة فائز السراج. المعطي الثاني الذي يجعل من تصرف الغنوشي في الاتجاه السليم هو موقف الجارة الجزائر من الصراع الليبي والذي على ما يبدو قد حسمته القيادة السياسية الجزائرية لصالح حكومة الوفاق الوطني والاصطفاف مع قيادته العسكرية حيث من المتوقع أن تبرم الدولة الجزائرية بعد عيد الفطر اتفاقا عسكريا مهما مع حكومة الوفاق الوطني يرمي إلى تعزيز القوة العسكرية لحكومة السراج من خلال بناء وزارة للدفاع بمواصفات عسكرية متطورة. المعطى الثالث هو التحول في الموقف الإيطالي من الصراع بعد أن لوحظ في الآونة الأخيرة تنسيق إيطالي مع البوارج الحربية التركية في الساحل الغربي ما فهم منه اصطفاف ايطاليا إلى جانب المحور الداعم للسراج والجميع يعلم مكانة التواجد الإيطالي التاريخي في ليبيا . المعطى الرابع ما لوحظ من تغير في موقف الحلف الاطلسي بإعلانه صراحة موقف داعم لحكومة السراج ودعوته المجتمع الدولي لدعمها . المعطى الخامس المحادثات التي تجري اليوم بين أردغان وبوتين حول التدخل في ليبيا والسكوت الروسي غير المتوقع لما يجري على أرض الميدان من تكبد قوات حفتر لخسائر فادحة ومؤثرة من شأنها أن تغير المعادلة السياسية في ليبيا وتقلب موازين القوى بصفة نهائية لصالح السراج وهو موقف فهم منه تخليا من روسيا عن المشير حفتر. المعطى الأخير والأهم هو الموقف التونسي الذي أعلن عنه رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ في حوار أجرته معه مؤخرا قناة فرانس 24 حيث اعتبر أن تونس مع الشرعية الدولية ومع المصلحة الوطنية التي تتماهي اليوم مع تأمين الجهة الغربية للحدود الليبية التي أصبحت تحت سيطرة حكومة الوفاق الوطني بعد أن انسحبت منها الميلشيات التابعة لحفتر مما سيسمح للعمال التونسيين من العودة بأعداد كبيرة للعمل في ليبيا بعد أن زال المانع الذي كان يحول دون ذلك. لكل هذه المعطيات اعتبر الكثير من المحللين قراءة الغنوشي للوضع الإقليمي وما يدور من تحولات في الداخل الليبي قراءة سليمة واستباقية لتأمين الحدود مع الجانب الليبي وتكوين جبهة إقليمية داعمة للثورة التونسية وقطع الطريق على الحلف الإماراتي السعودي المصري الذي يعمل على إفشال المسار الديمقراطي الذي سارت عليه تونس وما اعتبر مؤامرة خليجية على الثورة التونسية . هذه قراءة للموقف الذي اتخذه راشد الغنوشي رئيس مجلس نواب الشعب من التطورات الأخيرة في ليبيا والتي تعرف تحولا في معادلة الصراع في ليبيا قد تأكدها الأيام وقد تكذبها ولكنها تبقى قراءة مؤسسة على معطيات مؤثرة ولا يمكن تجاهلها وهي قراءة قد تكون مدخلا لتغيير الدبلوماسية التونسية من دبلوماسية قائمة على فكرة الحياد السلبي نحو تبني نظرية الحياة الإيجابي البراقماتي.