أتذكّر جيّدا كيف كانت أجواء العاصمة ليلا عندما كان يحلو التّجوال فيها، طولا وعرضا، على الأقدام دون خوف و لا ريبة ولا تعرّض لأيّ شكل من أشكال الإستفزاز والبلطجة و قلّة الأدب " حاشاكم" و غيرها من البلايا المنتصبة المترصّدة ، اليوم ، في كلّ مكان... كنت آنذاك أغادر البيت للشّغل وأغلب النّاس نيّام و أعود إليه قبل بزوغ الشّمس وإنقشاع الظّلام، ولم أتعرّض ،ولو مرّة، لأيّ مكروه يُذْكَر ، وذلك لمدّة أربعين سنة ونيف بإستثناء تلك اللّيالي الحالكة الدّامية العصيبة أثناء أحداث ملحمة 1978 ثمّ إنتفاضة الخبز 1984 ثمّ ثورة الكرامة 2011 التي إعتقدنا ، بعد نجاحها، أنّها سوف تحسّن الأوضاع و تدرّ علينا الخيرات و تصلح بالنا وتغيّر العقليات و تكنس أدران ما فات، فإذا بالأمور تتأزّم والمشاكل تتكدّس والأورام تتعفّن و الآمال تتبخّر و الحياة تتكدّر بتنامي أدواء اليأس و مكبّلات العجز و سرعة نسق تواتر المُحْدَثات و الخيبات والمُفْجعات... تُرى ، مالذي أصابنا حتّى يحصل لنا ما نحن فيه اليوم من تلوّثات و إنفلاتات و تزاحم جنونيّ ، ركضا ، نحو حافّة الهاوية التي ستبتلعنا جميعا ، لا قدّر الله ، لو تمادينا في تضييع أوقاتنا و إتلاف طاقاتنا في تغذية لهيب "الحريق" الذي أوقدناه بأنفسنا و ضخّمناه بتجفيف منابع وحدتنا و " ذرّ الملح" على أرضنا و ضخّ عقاقير الهون في أبداننا و دسّ حُقَن التّخلّف و الفتنة و اللّا مبالات في أمخاخنا؟! مالذي أصابنا حتى أصبحنا على قاب قوسين من حالة الإحتضار الشّامل والإنهيار العارم والإنحدار الخامل و الكامل ؟! هل إنقرض العقلاء من البلاد ، أمْ "أنّ في الأمر إنّ" ونيّة مبيّتة و خطّة مجهّزة لإجهاض ثورتنا بتقديمها للشّعوب المهرسلة المستعبدة ، على أنّها مثال بيّن على مصير كلّ من يجرؤ على مجرّد التّفكير في محاكاتنا و ينوي القيام مثلنا بثورة ما، لا ربح منها سوى الخراب و الدّمار و الإعتلاج و الدّم و الدّموع و التّقهقر و العناء؟ تنبّهوا و إنتبهوا وإستفيقوا يا من بأيديكم أدوات إحباط هذا المخطّط العدائي المدمّر لنا و لمستقبل قادم أجيالنا.. لا تغفلوا و لا تهادنوا ولا تضعفوا و لا تسلّموا . فتونس الغالية أمانة بين أيديكم و ضياعها ذنب في رقابكم لن يغفره لكم التّاريخ.. و كذلك أنت ياشعب ، كن في مستوى تاريخك و ثورتك و لا تنساق وراء من " يُكَمْبِصُ" و "يُتكْتِك" و يُنفق لإرباكك و ترويعك و تمْيِيعك و تجويعك و تركيعك و جعلك تتمنّى العودة إلى عهد السّمع و الطّاعة و المناشدات. تحيا تونس رغم الدّاء و الأعداء . اللّهم أسترها من كلّ مكروه و مكايدة و بلاء... تحيا تونس الغالية الخالدة الرّائدة الشمّاء..