عندما أنهت الراهبة جولة التسوّق وغادرنا السوق فكرت أن أطلب منها أن نستريح قليلا بأحد المقاهي المتناثرة على الشارع الكبير الذي تقع فيه السوق.. ولكنني خفت أن لا تقبل.. فكرت.. وترددت.. وتلعثمت.. ثم جمعت قوّتي وصارحتها برغبتي.. قلت لها: أقترح عليك أن نذهب الى مقهى ونجلس قليلا.. وندردش قليلا.. لم تتردد ولو للحظة.. ووافقت بمودّة.. ومرّة أخرى سألت نفسي: هل أنا في منام؟ هل أنا في يقظة؟ هل أنا في الأرض؟ هل أنا في السماء؟ وهل أنا مع ملاك؟ وهل أنا مع البراءة في شكل إنسان؟ ما الذي يحدث بالضبط ثم ماذا جرى بداخلي؟ إن روحي أشعر بها ترفرف في الفضاء الواسع.. إنني تحولت الى كتلة من الصفاء والنقاء والطهارة.. إن هذه المخلوقة أحدثت بداخلي زلزالا رهيبا.. إنه زلزال روحي ونفسي حتى أنني لم أعد ذلك الإنسان الذي كنت.. نسيت حكاية روبرتو مارتيني.. ونسيت ذلك الثعبان الخبيث ألبرتو كارتوزو.. ونسيت ذلك المخنّث الخبيث الذي يسمي نفسه فيفي.. ونسيت أجواء المطعم الكلب الذي اشتغلت فيه لفترة.. ونسيت الامبراطورة التي قتلت زوجها بالسمّ ثم قتلها الخوف من السمّ.. كل شيء نسيته.. الشيء الوحيد الذي أتذكره وأنا مع هذه الراهبة الخجولة.. البريئة.. الوديعة.. هي أمي.. تذكرت وجهها.. وضعفها.. وعجزها.. ومرضها.. ومرورها بالحياة وكأن ليس لها الحق في أي شيء.. وكأنها عبء على الناس والبلاد والدنيا كلها.. كانت تعيش أيامها باحتشام وضعف وحزن خفي وكأنها تقول للناس جميعا: بجاه ربي سامحوني.. وكأنها تعتذر لهم لأنها قدِمت الى الحياة.. وقد ورثت أنا أيضا عنها هذا الأسلوب في حياتي.. إنني أعيش وبداخلي شعور كأن الحياة ليست من حقي.. وكأن البلاد ليست بلادي.. وكأن لا شيء من حقي.. وصلنا الى المقهى وجلسنا وكان الطقس دافئا.. فازداد دفئا بحضور البراءة والسماحة واللطف والرقة.. جلست وكأنني بين وجهين.. بين كائنين لا ينتميان الى هذه الأرض.. بين وجه أمي الشاحب المصفر بفعل المرض ولكن الحنون والبريء.. وبين وجه هذه القدّيسة التي تجلس أمامي.. سألتها: هل أنت إيطالية الأصل أم إنك قادمة من بلد آخر؟ استفسرتني: لماذا هذا السؤال؟.. هل أبدو أنني لست إيطالية؟ قلت: سحنتك.. تقاسيم وجهك.. لونك.. كلها أشياء توحي وكأنك إسبانية الأصل.. ابتسمت ابتسامتها التي تدمّرني وقالت: صدقت، أنا أصلي من أمّ إسبانية ومن أب مغربي التقيا في غرناطة فتزوجا وعاشا فترة في غرناطة وأنا ولدت في هذه المدينة ثم لما صار عمري عشر سنوات انتقلنا الى الرباط.. قلت: إذن تخميني كان في محله.. إنك أندلسية الأصل وعربية الجذور وكل هذا الجمال لا يمكن أن يكون إلا من الأندلس.. احمرّ وجهها خجلا.. واتجهت ببصرها من خلال النافذة وراحت وغابت وصارت كأنها غمامة في السماء.. انتظرت قليلا وانشغلت بقهوتي الى أن عادت.. نظرت الى ساعتها ففهمت أنه علينا أن نرحل.. ولكنني تمهلتها قليلا وقلت لها: أحب أن أعرف ما الذي جاء بك من الرباط الى باليرمو؟.. هل أنت تحبين «الحرقان» مثلي؟ ما الحكاية بالضبط؟ ارتبكت قليلا ولكنها سرعان ما استعادت ذلك الهدوء الذي يكاد يكون قطعة من شخصيتها مثل يدها أو قدمها أو قلبها.. سبحان الله.. من أين تأتي بكل هذا الهدوء وكل هذا الوقار وهذه السكينة؟ هل هي ملاك يتخفى في صورة إنسان؟ تأملت فيّ قليلا بعينيها التي اكتشفت أن لكل واحدة لونها الذي يختلف عن لون العين الأخرى فلها عين خضراء وأخرى زرقاء.. لأول مرّة أرى هذا في حياتي فركزت على النظر الى عينيها.. سبحت فيهما.. وبسرعة غرقت.. وأصابني ما يشبه الدوّار.. ولاحظت أنها بعثرت أفكاري وكل شي فيّ بعينيها فهدأتني قليلا بلمسة من يدها الحانية فاسترجعت توازني ثم قالت لي: حكاية مجيئي الى باليرمو حكاية طويلة سأحكيها لك في وقت آخر.. إنها حكاية متشعبة ومعقدة كثيرا كثيرا.. وأتمنى أن أنساها لأنني عندما أتذكرها يصيبني ما يشبه الانهيار.. ولكي أحمي نفسي من هذا الانهيار انضممت الى الكنيسة حيث تعلمت أن الحياة لا تساوي جناح بعوضة إذا لم تكن رحلة مع الله ومع الهدوء ومع السكينة.. لقد أعطتني الكنيسة ما كنت أفتقده بشدّة؟ سألتها بلهفة وشوق وسرعة: ماهو هذا الشيء؟ الطمأنينة النفسية.. لقد صرت أنا والطمأنينة كائنا واحدا.. بل بوسعك أن تصف هذا الكائن الذي أمامك بالطمأنينة.. طلبت من النادل أن يأتينا بقارورة ماء فلقد أحسست بعد حديثها بعطش كبير.. بجفاف شديد في حلقي.. شربنا كؤوسا من الماء وكأننا شربنا الخمرة فغادرنا المقهى وكأننا سكارى.. لقد سكرنا ولكن ليس بالخمرة.. ولكن بخمرة أخرى لا يعرفها غير الراسخين في العشق الإلاهي.. ولكن! لا أسمع ولا أرى ولا أتكلّم! عندي شعور غريب يسكنني هذه الأيام وكأنه وحش أو ثعبان ويزعجني ويرهقني ويضاعف في كمية الاكتئاب التي أعاني منها.. هذا الشعور ألخّصه لكم على هذا النحو وهو أنني لم أعد أريد أن أرى أو أسمع أو أتكلّم أو أقرأ.. كنت دائما وطوال حياتي المهنية أشكو من نهم القراءة والمتابعة والرغبة في المعرفة والاطلاع وكنت لا أنام إلا بعد أن أقرأ عشرات الصفحات وأستمع الى عدة إذاعات وفضائيات.. وقد أنام قليلا ثم أصحو من جديد لأستمع أو أقرأ.. في مسيرتي الصحفية كلها لم أكن أهتم بغير المهنة وما يتعلق بها من كتابة وقراءة ومتابعة.. واشتغلت في نطاق المتاح.. وبما استطعت إلى ذلك سبيلا.. ولولا «بليتي» بالصحافة لما غامرت وتعذبت وتحملت وخضعت وتنازلت.. ولكن الآن وفي المرحلة الراهنة تحرّرت من هذا النهم فكرهت القراءة والكتابة والصحافة وأصبحت لا أتمنى شيئا غير أن لا أسمع.. أن لا أرى.. أن لا أتكلّم.. إن ما نسمعه ونراه لا يسرّ إلا العدوّ.. فكأن هناك حالة عامة أصابت عددا كبيرا من التونسيين اسمها حالة شماتة.. وهذه الشماتة موزعة على عدة مستويات ودرجات.. فهناك من هو شامت في بلاده! وهناك من هو شامت في غيره بصورة عامة! وهناك من هو شامت في أقرب الناس اليه! وهناك من هو شامت في زملائه! والنماذج والأمثلة كثيرة!!! فماذا يمكنني أن أقول؟ وكم سيتحمّل القلب من الأوجاع عندما تسمع الآن ما يدمي ذلك القلب من أخبار الحرق والتخريب والهدم والتكسير وقطع الطرقات والتهديد والوعيد والتلويح بالثأر والانتقام.. كم سيتحمّل ذلك القلب المتعب أصلا؟ آه.. لو كان الانسان حرّا وليست له التزامات وأعباء لذهب الى الجبل وعاش على الكفاف مع الطبيعة و«السماح» من كل هذا العذاب وهذه الظروف القاهرة والصعبة.. إن تونس جميلة ورائعة ما في ذلك شكّ ولكن البعض حوّلوها الى بلد أصبح يصعب فيه العيش.. أما لو سألتني من هم هؤلاء البعض لأجبتك بقولي: لا أعرف!!! فالمسألة غامضة ولا أحد يملك الجواب اليقين.. ولذلك صرت أتمنى أن لا أسمع وأن لا أرى وأن لا أتكلّم..