عادت جمعية الدراسات الفكرية والاجتماعية " فواصل " التي يرأسها الدكتور نادر الحمامي إلى طرح موضوع الحداثة الغائبة في الوطن العربي ورجعت إلى سؤال أسباب التعثر الذي رافق كل المشاريع التحديثية التي بدأت في الحاضنة العربية منذ القرن التاسع عشر وعادت إلى مناقشة إشكالية كيف نحقق نهضة وحداثة كما تحققت في التربة الغربية التي انتجت قيمها وأفكارها ؟ لكن عودة الجمعية هذه المرة كانت مثيرة وملفتة حيث ولئن كان سؤالها هو في العمق سؤال التقدم والتأخر وسؤال لماذا لم نحقق حداثة كما حققها غيرنا ؟ وإشكالية هل أن الحداثة مرحلة تاريخية خاصة بمن أنجزها أم أن الحداثة منظومة أفكار وقيم تحتاج توفر شروطها حتى تتحقق في كل زمن و عند كل شعب وهي كلها قضايا خاض فيها الكثير من المفكرين العرب وأنجزت فيها الكثير من المؤلفات حاول أصحابها الجواب على هذا السؤال القديم الجديد ويجد في كل مرة راهنيته مع بروز كل أزمة فكرية أو نفسية وحضارية تجتاح الأمة العربية والإسلامية وهو كيف نحقق حداثة ولا نكتفي بالتحديث ؟ الملفت هذه المرة هو أن من كان وراء إعادة طرح السؤال قد تجاوز كل هذه الأسئلة القديمة وحول زاوية البحث إلى مساءلة مدى حضور الوعي بضرورة الحداثة في حياتنا ؟ وهل مازال الفكر العربي والإسلامي ملتزما بسؤال التقدم والتأخر ؟ وهل ما زال المثقف العربي مهتما بالإجابة عن أسباب فشل كل مشاريع الحداثة وتعثرها ؟ بما يعني أن السؤال الذي طرحه المصلح " شكيب أرسلان " في كتابه " لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم " ؟ أو السؤال الذي طرحه " أبو الحسن الندوي " في مؤلفه " ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين " ؟ لم يعد له مكانا ومشروعية في ظل تراجع الفكر والثقافة العربيتين عن طرح السؤال وبعد أن انتقلنا إلى وضعية دنيا تكتفي وترضى فقط بمعرفة هل ما زلنا كعرب ومسلمين ملتزمين بكل أسئلة الحداثة التي طرحتها حركة النهضة العربية وبحث فيها زعماء الاصلاح منذ أواخر القرن التاسع عشر وبأكثر وضوح فإن سؤال اليوم قد اقتصر على معرفة هل مازلنا مرتبطين بقضايا الحداثة أم أننا قد فككنا الارتباط مع كل المشاريع العربية التي انتجها أقطاب فكر الاصلاح والتنوير والحداثة العرب ؟ فكان اللقاء مع الدكتورة "حياة عمامو " العميدة السابقة لكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس صبيحة يوم السبت 3 أكتوبر الجاري في ندوة فكرية قدمت فيها أهم الأفكار التي حواها البحث الذي نشرته في العدد الثالث من الكراس الفكري لشهر أوت 2020 للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. أهم ما جاء في هذه الندوة هو المسح التاريخي الذي قامت به الدكتورة حياة عمامو لعقدين من الزمن لمسار الحداثة في الوطن العربي والعالم الإسلامي من خلال استعراض دقيق لأهم المفكرين والمصلحين الذين شملتهم حركة النهضة والإصلاح وأبرز الأفكار والقضايا التي طرحوها والمداخل التي اقترحوها للإجابة على سؤال التقدم والتخلف وسؤال كيف ننجز حداثة على غرار ما حققه الغرب ؟ البدايات الأولى لمسار الحداثة كانت مع فكرة أن العالم العربي والإسلامي يحتاج لكي ينهض ويتقدم ويحقق حداثة على النمط الغربي إلى تحديث مؤسساتي وإلى محاكاة الغرب في كل ما انجزه من تقدم تقني وإداري وعسكري وتعليمي من خلال بناء وإنشاء المؤسسات العصرية وهذا المدخل للحداثة برز مع فكر خير الدين وكتابه أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك المنشور سنة 1867 ميلادي وهو بمثابة برنامج إصلاحي لإخراج العالم الإسلامي وتونس خصوصا من حالة الوهن والتراجع الحضاري من خلال تحديث التعليم وتعصير المؤسسات وخاصة الحربية منها وتواصل النقاش والبحث عن عناصر القوة التي تعيد للعرب والمسلمين مكانتهم الحضارية التي تخلوا عنها وخسروها مع رؤية المفكر جمال الدين الأفغاني ومقاربته الإصلاحية التي تقوم على الإصلاح السياسي حيث تفطن مبكرا إلى أن سبب ضعف المسلمين وتخلفهم يعود بالأساس إلى الاستبداد السياسي الحائل دون تقدم المسلمين لذلك كان مدخله للحاق بركب الحداثة عبر القيام بإصلاح سياسي يقطع مع الاستبداد ويرسي نظاما أكثر عدلا وأقل فسادا حتى يستعيد المجد الضائع. إصلاح التعليم والاعتناء بالتربية والتدريس وتطوير منظومة تربوية عصرية تحقق الوعي والحس النقدي وإعلاء قيمة العقل إلى جانب النقل وإرساء نظام اجتماعي عادل يحقق للشعب ظروف عيش أفضل قد عرف هو الآخر اعتناء واهتماما من قبل حركة النهضة العربية ورجال الاصلاح فكانت مقاربة الشيخ محمد عبده تركز بالأساس على الجانب التعليمي والاجتماعي في رؤية تعتبر أن الخلل في العالم الإسلامي هو خلل تربوي واجتماعي وطالما لم نحقق حداثة في مجال التعليم والتدريس وطالما لم نهتم بقضايا التنمية والقضايا الاجتماعية فإن العالم الإسلامي لن يعرف نهضة ولا تقدما وبالتالي لن يلتحق بركب الحداثة الغربية . لقد اعتبر الشيخ محمد عبده أن معضلة العالم الاسلامي تكمن في تأخر الإصلاح الديني وغياب تحديث التعليم والمجتمع حيث دعا إلى نشر التربية والتعليم طريقا للتحرر والرقي الاجتماعي فكان مشروعه الذي أراد نشره في العالم الإسلامي في إصلاح التعليم من خلال إدخال العلوم العصرية والاعتناء بالمسائل الاجتماعية إلى جانب تحقيق الإصلاح الديني الذي يراه في ضرورة تجديد تأويل النص المقدس والقطع مع التقليد الأعمى للقدامى والسلف مما يسمح بالتوفيق بين الإيمان وتقدير أفضل لمصالح المسلمين بما يواكب الحداثة الغربية . رؤية محمد رشيد رضا تلميذ الشيخ محمد عبده كانت مختلفة عن كل المقاربات التي سبقته حيث ذهب إلى أن سبب التراجع الحضاري الذي يشهده العالم العربي والإسلامي يعود بالأساس إلى غياب الاسلام من حياة الناس وعدم تطبيق أحكامه وشريعته وهي نظرة تعتبر أن المدخل إلى الحداثة يكمن في العودة إلى أيام السلف الصالح وتطبيق الدين في زمن الاسلام المبكر وهي نظرة اعتبرت في نظر الدارسين لفكر الحداثة العربية موغلة في السلفية وتعدها الدكتورة عمامو خروجا عن الخط الإصلاحي التحديثي الذي تبناه تيار النهضة العربية ومنعرجا زاغ عن مسار الحداثة العربية ويعود السبب في هذه الردة والانتكاسة حسب الدكتورة إلى كون جل من سبقوه من رجال النهضة والإصلاح قد تعرفوا على الغرب عن قرب وتعرفوا على منجزه الحضاري في حين أن رشيد رضا لم يغادر الأرض العربية ولم تحصل له تلك الصدمة الحضارية التي حصلت لغيره وجعلتهم يقفون على أسباب تأخر العرب والمسلمين. هذه المرحلة الأولى من مسار النهضة والإصلاح الإسلامي كان هدفها هو محاولة تكييف الإسلام مع صورة العالم والبحث عن طريق للحداثة العربية و قد تميزت هذه الفترة بخاصية أساسية وهي أن كل المحاولات التي قام بها أصحابها كانت من أجل البحث عن تنوير إسلامي وإحياء ديني من خلال التوفيق بين العقيدة الدينية والقيم الغربية وإنجازاتها العلمية والاقتصادية والاجتماعية وتحقيق الحداثة من داخل الدائرة والثقافة الإسلامية واعتبار أن الحداثة والتنوير الغربيين لا يتعارضان مع قيم الإسلام وتشريعاته. المرحلة الثانية من مسار الحداثة العربية كان عنوانها الكبير هو التوصل إلى مقاربة تحقق للعرب والمسلمين اللحاق بالأمم المتقدمة تولى بلورتها عدد من المفكرين تجاوزوا المعطى الديني في التفكير وتخلصوا من رابط العقيدة المحددة للإجابة على سؤال الحداثة فرغم أن جلهم منحدر من ثقافة دينية ولهم تكوين ديني إلا أن ما يميزهم هو تواصلهم مع فكر الأنوار وتأثرهم بمنجز علماء الغرب التنويريين وإعلائهم لقيم المدنية والمواطنة فجاءت طروحاتهم مختلفة عن مقاربات من سبقهم و حركت السواكن وكل راكد في الثقافة العربية وأهم رواد هذه المرحلة المفكر الأديب رافع رفاعة الطهطاوي وكتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريس " ودعوته إلى دستور يحتكم له الجميع وتنظيم الحياة السياسية على النحو الذي تنظم به الأمم الغربية حياتها والقائم على فكرة تفريق السلط على طريقة مونتسكيو وفي نفس النهج واصل عبد الرحمان الكواكبي الذي طرح إصلاحا سياسيا طريقا للحداثة من خلال مقاومة الاستبداد السياسي ومقاومة الحكم الفردي ورفض السلطة المطلقة ودعا إلى إرساء نظام سياسي حداثي تمثيلي يقوم على القوانين الديمقراطية ومن أفكاره ضرورة الفصل بين الدولة والدين لكون النظام السياسي الاستبدادي يستمد شرعيته من رجال الدين الذين وظفوا الدين لإخضاع الشعوب والحفاظ على مصالحهم في حين أن دورهم يقتصر على تأديب الناس على ممارسة الشعائر الدينية وبدل ذلك فإن العالم العربي والإسلامي يحتاج للخروج من هذا المأزق السياسي أن يرسي نظاما ديمقراطيا دستوريا. ونختم هذه المرحلة بمقاربة قاسم أمين الذي اختار حقوق المرأة والنهوض بوضعها مدخلا للحداثة من خلال تعليمها وتمكينها من حقها في الدراسة شأنها شأن الرجل . لقد أيقن مبكرا أنه لا حداثة ولا تقدم إلا إذا غيرنا من أوضاع المرأة وهي المقاربة التي سوف نجدها فيما بعد عند المصلح التونسي الطاهر الحداد ومحنة كتابه " امرأتنا في الشريعة والمجتمع " الذي جلب له سخط المؤسسة الدينية وتعرضه الى معاملة سيئة انتهت بموته مبكرا. بعد ذلك كان الحديث عن أعلام آخرين سجلوا حضورهم بقوة في فكر الحداثة العربية وساهموا بكثافة في خلخلة القناعات السائدة وتغيير العقلية والضغط من أجل تحقيق حداثة على النمط الغربي نذكر منهم علي عبد الرازق وكتابه " الإسلام وأصول الحكم " مرورا بمشروع عبد الله العروي وهشام جعيط وعابد الجابري وفضل الرحمان مالك ومحمد أركون وعبد الله فيلالي الأنصاري وحمادي الرديسي ومحمود محمد طه وحسين مروة وفرج فودة ونصر حامد أبو زيد وعبد المجيد الشرفي وبرهان غليون وهي كلها كتابات حاولت الإجابة على سؤال الاسلام والحداثة وإشكالية الإسلام والديمقراطية من وجهة نظر أن الديمقراطية لا يمكن التفكير فيها بأسلوب ديني في مقابل وجهة نظر أخرى تقول بضرورة إعادة التفكير في علاقة الإسلام بكل قضايا الحاضر وإيجاد مقاربة تعيد للإسلام حضوره كدين مختلف يمثل استثناء من الديانات الأخرى من أجل الانخراط مجددا في التاريخ بدل الخروج منه . انتهت المحاضرة الثرية بعديد الأفكار التي تساهم في مواصلة النقاش حول ما أصبح يسمى "بمأزق الحداثة العربية " على جملة من الخلاصات أهمها أن ما حصل من اغتيالات لبعض رواد التنوير العربي لم يكن بسبب هذه الكتابات التي تجرأت على المقدس والهوية الدينية وإنما يعود الكثير منها إلى انخراط أصحابها في النضال السياسي والمقاومة الميدانية لأنظمة الحكم وأن شهرة الكثير منهم كان وراءها جهاز دعاية أيديولوجي وسياسي روج لهم دون غيرهم . من الخلاصات الأخرى أن كل مشاريع الحداثة العربية قد انتهت إلى بروز تيارين كبيران : الأول يرى أن الحداثة لا تتحقق إلا من خلال ربط جسور التواصل مع القديم لخلق الجديد الذي يقطع معه و الثاني يذهب على أن الحداثة لا تتحقق إلا إذا أجرينا قطيعة جذرية مع القديم لأن أساسه الدين والحداثة كما ظهرت وتطورت كانت تجاوزا للدين . من الخلاصات الأخرى أن فكر الحداثة كان فكرا فرديا ولم يتحول إلى حركة موحدة ومشروعا جامعا يجمع كل المبادرات الفردية التي يلتقي الكثير منها فيما يطرحه أصحابها. وعلى خلاف ما يتبادر إلى الذهن فإن ما انجزه المفكرون الذين التزموا بالمشروع الحداثي يكرر بعضه بعضا غير إن المتمعن في هذا المنجز يجد أن هناك فروقا دقيقة بين كل هذه المشاريع الفكرية حول كيفية التغيير تصلح لبلورة مشروع عربي متكامل. من الخلاصات كذلك الاقرار بفشل المفكرين الذين اشتغلوا على قضايا الحداثة في تكوين رأي عام ملتزم بما يطرحونه وعجزهم عن تحويل أفكارهم الحداثية إلى حركة فكرية ضاغطة مسنودة سياسيا وشعبيا وهذا الفشل يعود إلى اعتبارات عدة منها الوضع السياسي الداخلي ومنها التحديات العالمية والإقليمية التي فرضت على السياسيي العربي أولويات أخرى غير إرساء حداثة في أوطانهم. ما يمكن قوله بعد الاستماع إلى هذا العرض المطول الذي تفضلت بتقديمه الدكتورة حياة عمامو هو الانطباع العام الذي حصل من أننا لا نزال إلى اليوم رغم الكم الكبير من الكتابات العربية التي تناولت موضوع الحداثة في الوطن العربي نراوح مكاننا بالرغم من كل الجهد الذي بذل ورغم كل الاجابات التي حاولت أن تفك سؤال التخلف والتقدم وكيف نحقق نهضة وإحياء من جديد فنحن لا نزال إلى اليوم لم نحقق المطلوب للحاق بركب الأمم المتقدمة وننجز حداثة نحتاجها وبقينا ننتظرها لقرابة العقدين من الزمن فهل ضللنا الطريق وطرحنا الأسئلة الخاطئة كما صرح بذلك المفكر السوري طيب تيزيني ؟ وهل كان علينا أن نطرح سؤال التنمية والعدالة الاجتماعية ونعالج قضايا الفقر والتهميش والبطالة أولا بدل إهدار العمر في البحث عن جواب لسؤال التراث والأصالة والمعاصرة والقديم والجديد؟ وهل نجري قطيعة كاملة مع كل القديم حتى نتقدم كما يطرح ذلك المفكر التونسي الطاهر لبيب؟ أم نجري مصالحة مع التراث ولا نتصادم معه ولا نعاديه لاستلهام ما نقدر أنه يصلح لنا كما يذهب إلي ذلك الكثير من المفكرين كان آخرهم المرحوم حسين الواد في روايته " لا رهبة من الماضي " وفي الأخير هل نحتاج أن نسائل منجز كل المفكرين الذين بذلوا جهدا كبيرا في الإجابة على سؤال الحداثة العربية ونقر بأنهم بذلوا جهدهم إلى أن ضاق مسار الحداثة في الوطن العربي ولم يعد بوسعه أن يوصل إلى بر الأمان وجعلنا اليوم في حالة عجز عن مواصلة ما بدؤوا فيه وجعلنا نفكر في ضرورة التفكير بطريقة مختلفة عن الانطلاقة الأولى لرواد النهضة العربية وكل المفكرين الذين جاؤوا من بعدهم ونجيب عن السؤال الكبير لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم ؟ فهل يكون السؤال أن الاسلام هو العائق والعبء المعطل وبالتالي نحتاج إلى إجراء قطيعة كاملة مع كل تراثنا الديني القديم كما فعل الغرب حينما فكر في انجاز حداثة ؟ أم أن الطريق إلى الحداثة في التربة العربية الاسلامية مدخلها مسار آخر مختلف انطلاقا من فكرة أن الإسلام يمثل استثناء عن كل الديانات الاخرى ؟