سعيد يجتمع بعدد من الوزراء ويؤكد على اهمية اصلاح التربية والتعليم    سلطات مالي تعلن تحرير 4 سائقي شاحنات مغاربة    من مسبح المرسى الى سماء العالمية ..أحمد الجوادي قاهر المستحيل    تاريخ الخيانات السياسية (36) ..المعتزّ يقتل المستعين بعد الأمان    دراسة.. مواد غذائية بسيطة تقلل خطر السرطان بنسبة تقارب 60%    شبهات التلاعب بالتوجيه الجامعي ..فرقة الجرائم المعلوماتية تلاحق الجناة    سفنه تنطلق من تونس يوم 4 سبتمبر .. 6 آلاف مشارك في أسطول الصمود إلى غزّة    عاجل/ واشنطن تعتزم فرض شرط جديد للحصول على تأشيرة عمل أو سياحة..    أخبار الحكومة    بلاغ رسمي للملعب التونسي    أخبار النادي الصفاقسي .. حصيلة ايجابية في الوديات.. وتحذير من الغرور    بنزرت الجنوبية: وفاة 4 أشخاص غرقا في يوم واحد    المدير الجهوي للتجارة بنابل ل«الشرق» استقرار في التزويد.. وجهود لضبط الأسعار    تونس: تجميع أكثر من 11,7 مليون قنطار من الحبوب إلى غاية نهاية جويلية 2025    النجم الساحلي يتعاقد مع الظهير الايسر ناجح الفرجاني    النادي الصفاقسي يعلن رسميا تعاقده مع علي معلول الى غاية 2028    الدكاترة المعطلون عن العمل: ضرورة توفير خطط انتداب ب5 آلاف خطة    ليلة الاثنين: بحر مضطرب بالسواحل الشرقية والشمالية    القصرين: العثور على جثة كهل تحمل آثار عنف    المنستير: تظاهرة "فنون العرائس على شاطئ روسبينا" في دورتها الثانية بداية من 15 أوت 2025    مهرجان العروسة: جمهور غاضب وهشام سلام يوضح    وزير السياحة: سنة 2026 ستكون سنة قرقنة    التعاون بين تونس وإيطاليا : طاقة التفاوض وفوائض الطاقة    بطولة افريقيا للشبان لكرة الطاولة بنيجيريا: المنتخب التونسي يختتم مشاركته بحصد 8 ميداليات منها واحدة ذهبية    القصرين: سواق التاكسي الفردي يتوجهون نحو العاصمة سيرًا على الأقدام تعبيرا عن رفضهم للقائمة الأولية للمتحصلين على رخصة "تاكسي فردي"    مهرجان نابل الدولي 2025... تكرار بلا روح والتجديد غائب.    رونالدو يتحوّل إلى صانع القرار في النصر... ويُطالب بصفقة مفاجئة    488 تدخل للحماية المدنية في 24 ساعة.. والحرائق ما وقفتش!    التوجيه تحوّل لكابوس: شكون تلاعب بملفات التلامذة؟    أمطار وبَرَدْ دمّرت الموسم: الزيتون والفزدق والتفاح شنيا صار؟!    عاجل: ''تيك توك'' تحذف أكثر من 16.5 مليون فيديو ودول عربية في الصدارة    ماء في الكميونة يعني تسمم وأمراض خطيرة؟ رّد بالك تشرب منو!    التوانسة حايرين والتجار زادا مترددين على الصولد السنة!    عاجل: الاتحاد العام التونسي للشغل يردّ على تهديدات الحكومة ويؤكّد حقّ الإضراب    الدلاع راهو مظلوم: شنوة الحقيقة اللي ما تعرفهاش على علاقة الدلاع بالصغار؟    في بالك ...الكمون دواء لبرشا أمرض ؟    والد ضحية حفل محمد رمضان يكشف حقيقة "التعويض المالي"..    نواب ديمقراطيون يحثون ترامب على الاعتراف بدولة فلسطين..#خبر_عاجل    سليانة: رفع إجمالي 275 مخالفة اقتصادية خلال شهر جويلية    وزارة الأسرة تؤمن مواكبة 1200 طفل من فاقدي السند ومكفولي الوزارة عرض La Sur la route enchantée ضمن الدورة 59 لمهرجان قرطاج الدولي    استشهاد 56 فلسطينيا برصاص الاحتلال خلال بحثهم عن الغذاء    بنزرت: وفاة 4 أشخاص غرقا في يوم واحد    القبض على "ليلى الشبح" في مصر: سيدة الذهب والدولارات في قلب العاصفة    "روبين بينيت" على ركح مهرجان الحمامات الدولي: موسيقى تتجاوز حدود الجغرافيا وتعانق الحرية    إصابة عضلية تبعد ميسي عن الملاعب ومدة غيابه غير محددة    جريمة مروعة تهز دمشق: مقتل فنانة مشهورة داخل منزلها الراقي    عاجل/ خلال 24 ساعة: استشهاد 5 فلسطينين جراء الجوع وسوء التغذية..    محمد عادل الهنتاتي: مصب برج شاكير كارثة بيئية... والحل في تثمين النفايات وتطوير المعالجة الثلاثية    البحر ما يرحمش: أغلب الغرقى الصيف هذا ماتوا في شواطئ خطيرة وغير محروسة    جريمة مروعة: امرأة تنهي حياة زوجها طعنا بالسكين..!!    تحذير طبي هام: 3 عناصر سامة في بيت نومك تهدد صحتك!    عرض "خمسون عاما من الحب" للفنانة الفرنسية "شانتال غويا" في مهرجان قرطاج الدولي    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    من بينها السبانخ.. 5 أطعمة قد تغنيك عن الفيتامينات..تعرف عليها..    تاريخ الخيانات السياسية (35): المنتصر يقتل والده المتوكّل    اعلام من باجة...سيدي بوسعيد الباجي    ما ثماش كسوف اليوم : تفاصيل تكشفها الناسا متفوتهاش !    شائعات ''الكسوف الكلي'' اليوم.. الحقيقة اللي لازم تعرفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"بَابُ السَعادَة" لِ فاليريا دِي فيليتشي (*) : لا إمْكان لِلسعادَة إلَّا بِالمَحَبَّة والتَواصُل.
نشر في الصريح يوم 12 - 10 - 2020


- 1 -
التَرْجَمَةُ هِي في كُلّ الأحوال قِراءَة وتأوِيل مُحايِث لِلْمَقرُوء، وإِنْ قارَبتْ رُوحَ النَصّ وَوَهَج مَعانِيه. وإلى ذلكَ فَالترْجمة قد تُذهب الكثير مِن رَوْنق أسالِيب النَصّ الأَصْلِيّ بِحادث الأُسْلوب انتِقالا مِن لُغَة المُتَرْجَم إلى لُغَة المُتَرْجَم إليْه. إلَّا أَنّنا عند قِراءَة ترْجَمة "باب السعادَة"، المجمُوعة الشِعْريّة لِ "فاليريا دِي فيليِتشي" بإحساس المُتَرْجِمة المغربيّة سناء درغموني وَثقافَتها تشمِيلا، والأَدَبِيّة الشِعريّة تخصِيصاً ندرك بِالحدْس القارئ أنَّ الوَهَج الكثير مِن رُوح النَصّ الأَصْلِيّة مُتبقٍّ، وإِنْ نحن لم نَقرأه بِالإيطالِيّة لِجهلنا لها، وَيا للأَسَف!
- 2 -
ما يَسْتَوْقفنا بَدْءاً هُو عنوان المَجْمُوعة "باب السَعادة": لَفظ البَاب لِما له مِن دَلالَة إيجابِيّة نفسِيّة حِكائيّة خُرافِيّة أُسْطورِيّة عَجائبيّة..، والسَعادَةُ هِي اللَّفظ الّذِي يختصر دَلالَةً البعض الكَثير مِن فلسفة الوُجود والمَوْجُود، ذَلِكَ أَنَّ السَعادة هِي القَصْد الأَوّل مِن أَيّ عَمَل بَشَرِيّ وفِكر. ولا سَعادَة إلَّا بِالإِسْعاد، بِمَا يَصِل الإنِّيّة (mienneté) بالغَيْرِيّة (altérité) في ذات الحَدَث الوُجودِيّ المُشتَرَك. وَكَذَا يُعَرَّفُ البابُ بِالسَعادَة، مِثلما لِلسَعادة بابٌ تَتَحدّد به بَدْءاً، وَبِمُطلق المَعنى.
وَلَكنْ، عن أَيّ سَعادَة تَتحَدّث الشاعِرة؟ وما هِي عِباراتها؟ دَلالاتها؟ تِدْلالاتها، تِلك الدَلالات الغارقة في التَخَفِّي؟
- 3 –
المَحَبَّة في هذه المَجْمُوعة الشِعْريّة هِي الدَلالة الوالِدَة الكُبرى (matrice)، ولا سَعادَة إلَّا بها، وَلَوْلاها لاستَحالَ الوُجود إلى جَحِيم لَيْس بإمكان الكائن الإنسان احتماله. إلَّا أَنّها مَشْرُوطَة بِالأَلَم ولا تخفيف لِحدّة هذا الأخير إلَّا بِها. لِذَا يَتلازم الاثنان في ما يَتَضمّنه تَصْدِير الشاعرة لِمَجْموعتها بِأَبْيات للشاعر الإيطالِيّ الشَهِير ماريو لوزي (Mario Luzi) (1914 م- 2005 م) مِن قَصِيدة "نسيان- الحُبّ"، ضمن "بَواكير الصحراء" (1952 م).
وَبِهذا التَصْدِير تتأكّد دَلالة الحُبّ المَرْجَعيّة الّتِي هِي يَقِين الحال المُتَكَرِّر في مُجمل نُصوص المجموعة الشعريّة رغمَ بُهمَة الأَشياء ووحشة العالم الماثِلة هُناك وَراء "البَاب"، "باب السَعادَة".
- 4 –
مُعْجَمُ الحُبّ، دَلالتُه/دَلالاتُه وَتِدْلالاته مُنتشرة في مُجْمل النُصوص. وَالإشارةُ إليْه مُعْلنة مُنْذ البَدْء بِمَا وَرَدَ إهداءً "إلى دينو" وبِنَصّ التَصْدِير المذكُور لِ ماريو لوزي.
هُو عِشق اللُّغة بَدْءاً بارتِغاب طِفلة لاعِبَة بِالحُروف، وَبِدَهشة المُفتَتِنة بَطَبِيعة البحر وأحلامه في عِزّ الرَبِيع، رَبِيع العُمُر. وهو الاستعداد أَيْضاً لِخَوْض تجربة الفَرَح بِرُوح الطفلة اللَّاعبة العاشِقَة المُندفِعة بِأقصى النشوة إلى "خِفَّة العالم".
فَالوَقتُ جَمِيل، وَالخُرافَة أَجْمل، والرغبة جِدّ مُتَيقّظة، وَالإنِّيّة مُكتَمَلة انتِشاءً بِالآخر القَرِيب واندِماجا في ضَمِير ال "نَحْن" الدالّ على اثنَيْن في واحد.
- 5 –
إنَّهُ فَيْضُ مَحَبّة هذا الّذِي تمتلئ به فاليريَا دِي فيليتشي، مَحَبّة أُنثى بَلَغت أقصى حالات ارتِغابها، مُنفتحةً على الآخر/الذَكر إحْسَاسا بِفَائق الأُنوثَة وبِفَرح لا كَأيّ فَرَح: "اِبقَ بِجانبي. قريبا جِدّاً/ بِلا تظليل لِظِلّي/ لِأَجد وحدي نور كَوْنِي امرأة/ حولي. في نفسي. في فِكري/ لِصَدِّ الخوْف، كي لا أهرب أبدا/ مِن أرض السَعادَة هذه" (ص24).
- 6 –
لا سَعادَةَ، إذنْ، إلَّا بِالمَحَبّة. وَالمَحَبّةُ ارْتِغابٌ حَدَّ الهَوَس، انفِتاحٌ بِأَقصى جهد الأُنثى على الآخر الذَكر، بِإيروسِيّة عاشِقَة استثنائيّة تتنقّلُ عبْر قارّات الجَسَد وأقالِيمه، وفي خارِطَة الرَغبات والأَحاسِيس، بِلا دَلِيل لها، ولا بَوْصلَة إلَّا علامة هذا الآخر الماثل في خَبايا لعْبة الكِتابَة وَطَوايا الحال العاشِقَة لِلْعالم بِالآخر، وَلِلْآخر بِالعالم.
أَمَّا لُغَة المَحَبّة فهي لُغة حُلم يَقظة (rêverie)، بل أَحلام تتشكّل في حِين الكِتابَة بِمدى الاقتِراب مِن هذا الآخر الحاضر في الكيان قبْلَ المَكان، أو بِهما مَعاً. ثُمّ إنَّ لِهَذه المَحَبّة لعْبة أدائها الخاصّة بِالاشتِغال على الضَمائر: أنا، أنتَ مُخاطَبَةً أو أنا- السارد، هِي أوْ أنا يُخاطِب أناه بِضَرْب مِن الحِوار الذاتِيّ.
- 7 –
يَتَرَدّد في الأثناء لَفظ الخَوْف، هذا المُناقض لِلْمَحبّة والمُهَدِّد للسَعادَة. ف"أشواكه" مُنزَرعَة في الداخل لا تَدع الفَرَح يَسْتمِرّ إلى ما لا نِهاية، شَأنَ حَياة المَوْجُود ذاتها، فهي بَيْن أَلَم وَلَذّة، وَبَيْن أَلَم وأَمَل. وَكُلّما تَحَقّقت رغبةٌ اشتدّ قَلق. وَكُلّما انحبست رغبةٌ أُخرى اشتدّ أَلَم، لِتَظَلّ النَفس غَيْر ثابتة على حال. وذاتُ الشَاعِرة، وهي المُتَلهّية بِلُعبة الكِتابَة مُدْركةٌ بِصِفَة واعية ولا واعية أَيْضاً وضْع المُؤَقّت الزائل، في حِين تنشد في عَمِيق الحالّ كمال الفَرح ودَيْمُومة السَعادَة.
- 8 –
إنَّ حال المحَبّة واضحة حَدّ الالْتِباس، مُلْتبسة حَدّ الوُضوح، كما النَفس البَشَرِيّة، ونَفس الشاعِرَة تخصِيصاً، كما العالم، وكما اللُّغة، وَلُغة الشِعْر في مُقاربة هذا العالم الواضح الغامِض. فَالمَحَبّة هِي بالِغة الوُضوح بِالمَحَبّة ذاتها، وبالِغة الالتِباس بِسِواها الماثل فِيها، بِما قَدْ يُقَوّض بُنْيانها في أَيّ حِين. وَهذا الإحساس الآخر النَقِيض هُو مُوَلّد الخَوْف والدافع إلى التَوَجُّس.
كَذَا لُغَة الشِعْر فهي تذهب بَعِيدا في أدَاء معنى حال المَحبّة مُوغِلةً في عَتمة اللَّا- معنى، بِسريالِيّة تُرْبك المعنى وَتَدْفعه إلى دائرة مَوْصُوف حالٍ شِبْهِ هَذيانِيّة...
- 9 –
يُستمَع إلى صَوْت المُحِبّ، وَلِلْجَسد رَفِيفُه الخاصّ، ذِكرى "تُراثه القَدِيم"، مَكانه المُتقادِم أَيْضاً: "معصرة حُقول زَيْتون قديمة". وَبِهَذه القَدَامة تتشكّل صُورة العاشِقَة مُتَأَمِّلةً في أشياء العالم، حالِمَةً في اليَقَظة.
وب"الضفيرة" المُهْداة رَمْزًا شِعْريًّا إلى الآخر الحَبِيب تُصَرّح الذات الشاعِرَة بِيَقين مَحَبّتها مُتَحَدّيَةً بِعِشقها الجارف عَتمة الأشياء، بُهمة المعاني. فلا إمكانَ لِتَجْلية هذا المُعتم إلَّا بِالنُور المُنْبعث مِن داخل النَفس العاشِقة...
وَكَذَا فَإنّه بِالمَحَبّة يَتَجَلّى بَعْضٌ كَثير مِن العالم وتُشرق النفس، تتوهّج بِالمَعيّة: "نلتهب ولا نحترق" (ص50)، ك "إيروس" مُولّد الحَياة في الأُسْطورة اليُونانِيّة القَدِيمة وَمُخصِب الكائنات وَمُجَدِّد الحَياة.
- 10 –
على "ظهر البحر"، أوّل قَصائد المَجْمُوعة الثلاثة الكُبرى، تتجلّى حال العاشق. وَبِالبحر ينفتحُ عالم فاليريا دِي فيلتشي الجُوانيّ على "لحنٍ فاصل" (ثاني القَصائد الثَلاثة الكُبرى). وَبِالمُوسِيقي، مُرادِفةً لِلْمَحَبّة، يُمْكن تَحَمّل الوُجود المُوحش. إذْ ب "اللَّحْن" تنشأ وِلادة جَدِيدة (انبِعاثٌ). فَمُنذ بَدْء المَحبّة و ب"اللَّحْن" تتغيّر الأشياء، تدّاخل الأشكال وعناصر الطَبِيعة في ذاتِ وُجودٍ واحد مُشترَك.
كَذَا يروي "لحن فاصل" بِوَاسطة الشِعر حِكايَة وِلادة جَدِيدة حادِثَة، وتنطلق "الكلمة المكْتُومة مِن حُبْسة الغِياب" (ص54) لِإنهاء زَمَن والابْتِداء في زَمَن آخر جَدِيد:" كُنتُ أَتَكَلّم بِشَكل كامل عن الحَياة. والآن وأنتَ مَعِي/ أَنتَ هُنا وَنَحْن هُنا/ أحملك مَعِي، بِداخلي/ في الجَيْب المَخِيط والمُلْتصِق على صَدري/ لِجَمْع حِبْر قُبلاتك" (ص54- 55).
وَكَأَنَّ نُصوص "على ظهر البحر" تشهدُ حَدَث اللّقاح المُبارك بِالمَحَبّة، ثُمّ حَدَث وِلادَة جَدِيدةٍ.
- 11 –
"أعيش مِن جَدِيد خُرافة المِيلاد/ معك أنت/ أنت الوعد المُجاوِر لِبَاب السَعادَة/ الفُرْصة الّتِي أُتِيحتْ لِشمس جَدِيدة" (ص62). فلا تَجلَّيَ بِالكامل للدَلالة الشِعْريّة وإنْ حَدث المِيلاد وتأَكّدَ معنى السعادَة. وإذَا يَقِينُها غَيْر مُكتَمَل نَتِيجَةَ الخَوْف المُنْدسّ في عَمِيق النَفس غَيْر المُطمئنّة لِتَوجّسها الخَطِر الّذِي يتهدّدُ السَعادة لِإنهائها، كأَيّ فِعْل لِزَمن آيل إلى الانقِضاء، وذلكَ لانتِصار المَوْت أخيرا، العَدَم، الخواء. ف" خُرافة المِيلاد" هِي مُختصر هذا الخَوْف مِن التوقّف، مِن التَعَطّل، مِن الاندِثار، إذْ لا إمْكانَ في المُحَصّل الأخير لاستمرار أَيّ شَيْء في الحياة، بِما في ذلكَ السَعادة، وَرُبّما المَحَبّة أَيْضاً!، ذلكَ أنّ السَعادَة مشرُوطةٌ بِالإسعاد المُتبادَل، فَإذَا أَخَلّ أَحَد المُتحابّيْن بِهذا الشَرْط تَقَوَّض كُلّ شَيْء، لِذا فلا سَعادةَ ولا إسْعاد إلَّا بِالآخر (أنت) المُعَرَّف: "أنتَ الوعي المُجاور لِبَاب السَعادَة".
- 12 –
رغم يَقِين المَحبّة فإنّه لا شَيْء في العالم مُكْتمل، إذْ هُو عالم مُهتزّ، "جَدَليّته مُتَخلخِلة" بِلا تناظُم وَبِلا وحدة أَيْضاً، مُفَكّك، مُهَدّد بِالانهِدام، وإلى ذلكَ فهو مُلغَز مجهُول... فَتَتوالد أَسئلة الشاعِرَة مِن فراغ. وكَأَنَّ اللُّغَة، بِواقع هذه الحال، مُزدحمة بِخواء المعنى، كَأَنْ تستحيل إلى ما يُشبه الكِتابَة الهَذيانِيّة أحيانا. لِذَلك نراها توغل في عَتمة اللَّا- معنى، مُقارِبَةً بِذَلك مَوْصُوف السريالِيّة. وما اتَّضح في "على البحر" و"لحن فاصل" مَحَبّةً وارتِغابا في السَعادَة استحَال إلى نَواةِ دَلالةٍ مهزُوزة مُزدحمة بِالقَلق والخَوْف مَعاً.
- 13 –
فَتُحاول الشاعِرَة أمامَ الفَراغ المُسْتَبِدّ بِالكيان الانفِتاح على الكُوسموس، على الكَوْن الفَسِيح، على "قمريْن كامليْن يَدُوران" (ص72)، على "أزرق السَماء"، على "النُجوم" واللّيْل والنهار والطُيور المُحَلِّقَة في أعلى سَماء. كما تفتح "اللَّحْظة"، حَبِيسة المُبهم، على حُلم الأَبَدِيّة، ولا مَلاذ، ولا مُنقذ مِن حال الانحِباس إلّا الجَسَد، حُلم الجَسَد بِالإنّيّة والغَيْرِيّة. وتفتح اللَّحْظة أَيْضاً على غامض الرَغَبات، وعلى اللُّغة، لُغة الشِعْر تَحْدِيداً، حَيْث إمْكان المعنى الوَحِيد المُتَبقِّي في زحمة فوضى الكيان، وعلى اللّعب إمْكانا مُتَحَقِّقاً بِلُغة الشِعْر، بِبراديغمات الإنشاء والفسخ وإعادَة الإنشاء بِحَرَكة شِبْه دَوَرانِيّة حَوْل نَواةِ مَعنى تقريبيّة مُمثَلةً في المَحَبّة المُحَفِّزَة على الاستمرار في لُعبة الكِتابَة إلى آخر هذه المجمُوعة الشِعْريّة، وفي مَكانِيّة تَصِل بَيْن الإنّيّة والغَيْرِيّة: "فِي مكان انتِظار آخر/ أنا هُنا، أنتَ هُنا/ على هذا الشُرشف الأخضر/ مِن صَمْت مُمَزّق" (ص84) حَيْث الأَمَل غيْر مُنتفٍ تماما، ولا بَدِيل عنْه، إذْ بِانتِفائه الكامل يتداعى كُلّ شَيء: الوُجود والمَوْجُود في آنٍ واحد.
إنَّه الأَمَل في استمرار المَحَبّة، التَلاقِي، التَواصُل الّذِي به يُمكن تَحَمُّل فاجعة الفَراغ المُوحش.
- 14 –
جَسَدان في واحد، إذْ داخل المَكان (الغُرْفة) بِأَشيائها الخاصّة، وأَبْرزُها "السَرِير" و"الشراشف" يلتقي الماء والنار، الرغبة واللَذّة: "فخذاي المَصْنُوعتان مِن الماء/ تنْفَتحان على نار حِزامك"، وبِالحَرَكة (السرير الأُرْجوحِيّ) في تَلاقِي اللَّحمَيْن يحدث التَوالُج الحَمِيم إثباتا وَحِيدًا حِينِيّاً لِيَقِين المَحَبّة، ولا يَقِين سِواها في المُحَصّل. وَكَذا يتّضح المَشهد الجامع بَيْن مُختلِف المَواقف والحالات الشِعْريّة بِالمَقام الإيرُوسِيّ، هُناك "في غُرفة الحُبّ المُظلِمَة" (ص94) حيْث بِتَكرّر الفِعْل الجنسيّ إثباتا لِوُجود وَمَوْجود، بل لِوُجود مَوْجودَيْن بِالرغبة المُتَيَقِّظة والشهوة المُسْتفزّة المُتبادَلة: وَبِهذا الفِعْل المُتكرّر تتحرّر إنِّيّة الشاعِرَة مِن الخَوْف والشكّ والقَلق أَيْضًا، إذْ يحدث الترائِي ب "اللُّغز المكشُوف في مِرْآة الآخر" (ص99).
- 15 –
كَذَا السَعادَة، في خاتِمَة هذا القَوْل، لا تتحقّق إلَّا بِفائض الرغبة والاستِجابة لِندائها بِالجَسَد ينفتح بِأَقصى جهد التَشَهِّي على الجَسَد الآخر. وما المَحَبّة في المُحَصَّل إلَّا حُدوثٌ في الجَسَد وبِه، وَبِالقُوَى الفاعِلة فِيه، وَبِما يَصِل ولا يُفارِق بَيْن الرغبة والألَم والأَمَل والخَوْف والقَلق والحُلم واليَقِين واللّا- يَقِين وَبَيْن أشياء المَكان والعالم والكَوْن في أبْعد أقَاصِيه، لِيَتَبدّى فائِضُ العِشق بِاللَّحْظة الإيروسِيّة تختصر فِعل الحياة آنَ تخَلُّقها الأوّل ثُمّ تَكَوُّنها حَياةً لِتتجدّد وتتبدّد ثمّ تتجدّد مِراراً وتِكْراراً وإلى ما لا نِهايَة، كما الرغبةُ تختصر الحَياة: حُدوث فانقِضاء ثُمّ عَوْد آخر لِحُدوث...
وإِذَا "باب السَعادة" في زحمة الدوالّ الشِعْريّة لِ فاليريا دِي فيلتشي هُو العَلامة الدالّة على إمْكان ثابتٍ دلالِيّ مَرْجعيّ هُو المَحَبّة، كما أَسْلفنا، بِشَرْط التَواصُل بَيْن إنّيّة الأُنثى وغيْرِيّة الذَكر: سَعادةٌ مُتبادَلَة إسْعاداً وانْسِعاداً في الآن ذاته.
(*) فاليريا دِي فيليتشي، "باب السَعادة"، ترجمة عن الإيطالّية: سناء درغموني، تونس: دار ديار للنشر والتوزيع، 2020.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.