دأبت هذه الأيام، وبإصرار كبير، على متابعة ما يحبّره الكتّاب العرب في الصحف والمجلات، وماتصدره دور النشر من تآليف حول الثورات المضطرمة في مناطق عديدة من الوطن الكبير، وقد كانت الصدمة مذهلة اذ انغمس أغلب الكتاب في متاهات الإنطباعية والسطحية ومجاراة الأحداث بطريقة سردية، وكنت أظن في البداية ان الأمر يقتصر على فئة من «الكتبة» الصغار، ولكني اكتشفت، مع مرور الأيام، ان العدوى غمرت ما كنا نعتقد أنهم «كبار» فالمتمعن في تاريخ الإبداع الإنساني يلاحظ بيسر ودون عناء أن الحراك الشعبي (ثورات، انتفاضات، تغييرات...) الذي تعيشه الشعوب والأمم، يؤدي، دوما، الى ظهور انتاجات فكرية وأدبية وفنية كثيفة وعميقة، هي في منطلقاتها ومقاصدها، ردّة فعل تلقائية تجاه مايحدث، ومحاولة جريئة لإستعادة المبادرة وتمهيد مسالك الإنعتاق والتحرّر والنهوض، لذلك ظهر «روسو» و«فولتير» و«أنغلز» و«ماركوز» و«ڤوت» و«دستويفسكي» و«سارتر» و«كامو» «مالرو» و«لوركا» و«مورافيا» وغيرهم في كل الثورات المتواترة التي عاشتها أوروبا على امتداد أكثر من قرنين من الزمان، وأنتجت ابداعا تنويريا وتحديثيا هائلا، مازلت الإنسانية تنهل منه بشغف كبير. وفي الأدب العربي كتب أبوحيان التوحيدي روائعه على ايقاع ثورات الأقليات، وواكب الشابي والحداد وارهاصات التحرّك الإجتماعي، والفوران الثوري ضد الاستعمار في تونس. وكان العقاد وطه حسين أهم أصوات الثورة الفكرية ضد الانتداب البريطاني لمصر، والأمثلة عديدة ومتنوعة ولايمكن حصرها أبدا. فالمبدع هو ضمير الأمة، التي يتحرّك على ايقاع نبضاتها، ويرفع صوته كلّما غفا العامة وهزّهم تيار الإنتشاء والإنفلات والفوضى واللاوعي. لكن المفارقة العجيبة التي تصدم العقول والضمائر، والخارجة عن منطق التاريخ هي ان الثورات المضطرمة منذ ما يقرب عن أربعة أشهر لم تنتج، الى حد الآن أدبا رفيعا، أو فكرا نيرا، او فنّاراقيا، باستثناء بعض المحاولات المتناثرة، على عكس ماحدث في الثورات السابقة، ففي النصف الأول من القرن الماضي شهدت الساحة الإبداعية العربية مدّا فكريا وأدبيا هائلا، وظهرت أصوات ماتزال نبضاتها تسري في عروق الأجيال المتعاقبة وفي الستينات وماصاحبها من حراك ايديولوجي علت ضمائر الحداثة في كل مكان من الوطن العربي، تاركة ارثا ابداعيا متنوعا. واليوم، وقد انتفضت الأمة، كما لم تنتفض من قبل أبدا، وهزّها تيار التغيير الشامل لم يظهر على الساحة ما كنّا ننتظره من انتاجات تعطي زخما ابداعيا مبهرا للثورات، وتخلد بأساليب وأشكال الابتكار الأدبي والفني للحظات التاريخية التي أعادت كتابة تاريخ العرب بمداد الحرية والكرامة. انها صدمة فعلا، ولكن الأمل مازال قائما ليستعيد المبدع العربي قواه، ويؤدي دوره في هذه المرحلة التاريخية الدقيقة، فالأمة التي أنجبت المتنبي وابن خلدون، وابن رشد، وابن سيناء والخوارزمي، قادرة على انجاب أمثالهم لبناء صروح حاضرها ومستقبلها.