سمع العالم بخبر إعلان الرئيس ترامب عن قبول المملكة المغربية وإسرائيل تطبيع العلاقات الدبلوماسية بينهما وسمع العالم بأن حلقة عربية جديدة تضاف الى سلسلة التطبيعات ولكني بحكم التجربة القديمة التي وهبتني أن أعيش بعض الأحداث في تاريخنا العربي الحديث لعلها تضيء جوانب خفية أو استعصى فهمها عن أذهان هذا الجيل الجديد و أرويها لهم مثل قبس من النار التي جاءت على لسان سيدنا موسى عليه السلام (قال الله -جل وعلا- في سورة طه في قصة موسى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى. إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه: 9-10] وجاء بها إلى أهله بعد خروجه من مدين. عادت إلى ذاكرتي إحدى النقاشات المهمة التي كانت لي مع عبد العزيز بوتفليقة في أواسط التسعينات وكان الرجل مستشارا لرئيس دولة الإمارات الشيخ زايد أل نهيان ويعيش في أبوظبي ودأب أصدقاؤه المتواجدون في الدوحة على دعوته لقضاء عطلة آخر الأسبوع (خميس وجمعة في ذلك الوقت) بالعاصمة القطرية وكانوا هم من أصدقائي أيضا و يلبي عبد العزيز بوتفليقة الدعوة ويزورنا هنا و نتغدى معا على بساط على الأرض في بيت السفير محمد آل خليفة الذي تعرّف على بوتفليقة حين كان هو سفيرا لقطر بالجزائر وكان بوتفليقة وزير خارجية الجمهورية الجزائرية أو نتعشى في بيت الصديق الثاني لبوتفليقة و لي وهو الشيخ علي بن جاسم شقيق الشيخين محمد و خليفة بن جاسم وهما اللذان تداولا على رئاسة غرفة الصناعة و التجارة القطرية و كان بيننا في الدوحة يقيم صديق لبوتفليقة أيضا وهو المثقف العماني الدبلوماسي الأسبق و الاعلامي المتألق علي بن مسعود المعشني و أذكر كما لا شك يذكر الإخوة الأفاضل الذين سميتهم بأني أثناء عشاء قلت لعبد العزيز بوتفليقة: " يا أخي عبد العزيز لو قيض الله لك أن تعود لتتحمل مسؤولية سياسية في بلادك من جديد!" و هنا قاطعني بوتفليقة بحدة بقوله: " أعوذ بالله فال الله ولا فالك فأنا ابتعدت عن السياسة من زمان و أديت دوري وخلاص" فرددت عليه مبتسما و مازحا: " إن الرجل السياسي كما قال الجنرال ديغول لا يموت إلا بموت طبيعي و يدفن في قبره أما ما دامت فيه ذرة حياة و يتنفس فالعودة للسياسة واردة...ثم يا أخي عبد العزيز لنفترض افتراضا...مجرد افتراض أنك عدت و أمسكت ببعض خيوط السياسة و القرار في الجزائر أو بالخيوط كلها فرجائي منك أن تضع حدا لملف البوليزاريو و تنهي هذه الأزمة ليعود المغرب العربي للتنسيق وربما الوحدة فهذه القضية كما تعلم هي التي تسمم الأوضاع بين الجزائر و المملكة و تعطل اتحاد شعوب المغرب العربي" وهنا جاءتنا إجابة عبد العزيز بوتفليقة وهي تعود إلى الذاكرة بعد ربع قرن من ذلك العهد بمناسبة تطبيع المملكة قال المناضل الجزائري أنذاك: " أخي أحمد إن قضية البوليزاريو هي قضية الرئيس هواري بومدين الشخصية رحمة الله عليه و قد توفي الرجل في ديسمبر 78 و وصل الى الحكم في الجزائر اليوم رجال من جيل ما بعده وجوابا عن سؤالك الإفتراضي هو: "لو أمسك بجزء من السلطة يوما ما فإن أول ما أقوم به هو غلق هذا الملف و إعادة الروح الى العلاقات الجزائرية المغربية و إتاحة الفرصة التاريخية لإنشاء إتحاد مغاربي قوي قادر على مواجهة أوروبا و الغرب و العالم كأنه دولة واحدة قوية" إنتهت إجابة عبد العزيز بوتفليقة وهي ما تزال حية متوهجة في ذاكرة من سمعوها منه معي مباشرة فالمجاهد الوطني بوتفليقة قبل كل شيء هو الذي قضى عشرين عاما على رأس خارجية الجزائر وهو رائد من رواد حركة الإتحاد الإفريقي و حركة دول عدم الإنحياز و أحد مؤسسي دولة الاستقلال الجزائري عن الإستعمار الفرنسي الطويل و أحد بناة نهضة الجزائر الحديثة. السؤال الذي ظل يحيرني لسنوات هو: لماذا لم يف بوتفليقة بوعده لي و للسفراء الحاضرين معنا في بيت آل خليفة و الجواب لعله يكمن في كون ملف البوليزاريو بأبعاده التاريخية يتجاوز قدرة و صلاحيات رئيس الجمهورية أيا كان هذا الرئيس وهذا الإستنتاج ليس من عندي بل أقر به مبعوث الأممالمتحدة المكلف سنة 1997 بالوساطة في الملف الصحراوي لحل هذه المعضلة وهو الدبلوماسي الأمريكي وزير خارجية واشنطن الأسبق السيد (جامس بيكر) الذي أصدر هذا الأسبوع بيانا يندد بسلوك الرئيس ترامب في هذا الملف ومقايضة التطبيع بالاعتراف بمغربية الصحراء.