"اليوم وبلادنا تتعرّض إلى مخاطر اقتصادية ومالية جسيمة قد تؤدي إلى الإفلاس إن بقي الحال على ما هو عليه وإن لم نحزم أمرنا على شيء من الشدّة من ذلك أن جملة الذين سيذهبون إلى الحج هذه السنة يقارب 11 ألف مواطن وهو ما يمثل نزيفا من العملة الصعبة وإهدارا للطاقات والمقدرات ويستدعي منا إعمال النظر في حكم الحج هل هو ثابت أو متغير بحسب الظروف؟ وهل أن الاستطاعة التي هي شرط وجوب تنصرف إلى الفرد أو أنها تشمل الجماعة؟ وهل يصحّ شرعا تعليق أداء فريضة الحج إن توفرت أسباب ذلك؟ نقول وعلى الله الاتكال، فرض الله تعالى الحجّ مرّة في العمر وقد ذهب الفقهاء المعتبرون إلى أن هذا الوجوب ليس على الفور بل هو وجوب مُوَسّع على التراخي أي أنه يبقى في الذمة دَيْنا إلى أن تتوفر الظروف المساعدة على أدائه قال الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور:"وذهب جمهور العلماء إلى أنه على التراخي وهو الصحيح من مذهب مالك"(1) وبيّن ممّا ذكر أنه لا حرج في تأخير الحجّ الذي اشترط لوجوبه الاستطاعة، وقد تناول الفقهاء هذا الشرط بالبحث فقالوا إن الاستطاعة الموجبة للحج هي القدرة على الوصول إلى مكة وتتم ب أ) قوة البدن ب) وجود الزاد وهو أن يجد الحاج ما يكفيه ويكفي عياله حتى يرجع. ج) السبيل وهو الطريق المسلوكة ويشترط فيها الأمن. بعد كل هذا تتبادر إلى الذهن ملاحظتان هامتان: أولاهما أن الفقهاء تناولوا الاستطاعة حال انطباقها على الفرد فاستجابوا بذلك لِما عليه مجتمعاتهم وهي مجتمعات مفتوحة تغيب فيها الحدود كما هي الآن ولا تقوم فيها الدولة إلا بدَوْرَيْن دور عسكري يستهدف بسط السيادة وحمايتها ودَوْر مالي لا يتعدى الجباية دون أن يكون لها مدخل في توجيه النشاطات الاقتصادية والمالية والإشراف عليها كما هو الحال اليوم. وثانيتهما أن القاعدة العامة عند أداء العبادة هي التيسير وهو ما نلحظه في الصلاة والصوم والوضوء وغيرهما أما بالنسبة للحج فإن شرط الاستطاعة لم يعد هو نفسه كما كان سابقا بل دخلت عليه مستجدات وجب أن نأخذها بعين الاعتبار حتى لا يكون الحج مجلبة للمشقة ومدخلا للعنت. إذا وضعنا في الاعتبار أن: 1) الاستطاعة اليوم لم تعد تتناول الأفراد فقط بل إن معناها ينصرف إلى المجموعة نظرا لتعقد مسالك الحياة وترابط المؤسّسات وتداخلها وتشابك العلاقات الدولية وتأثير كل ذلك على مصالح الأمة، والمتأمل في العوامل المتداخلة عند أداء هذه الشعيرة يلحظ بجلاء أنها تلامس قطاعات ومؤسّسات متعدّدة منها ما هو رسمي ومنها ما هو خاص لتنتقل بذلك الاستطاعة من حالتها الفردية إلى حالتها الجماعية التي تشمل البنك المركزي والبنوك الفرعية ومؤسّسات الأسفار وشركات الطيران ووزارات الداخلية والخارجية لذا وجب النظر إلى الاستطاعة اليوم ضمن مفهوم أشمل وأوسع يتناول قدرة الدولة على الوفاء بموجبات الحج. 2) أداء فريضة الحج يتكلف على الميزانية العامة للدولة بمبالغ مهولة من العملة الصعبة ومن الحكمة أن تخصّص هذه المبالغ لِما يحفظ بيضة الأمة ويخفّف عنها غلواء التداين والارتهان إلى الأجنبي. 3) سلامة الوطن وحمايته والعمل على توفير الضروريات وما ينفع الناس ويردّ عنهم غوائل الدهر أولى الأولويات وهي مقدمة على غيرها حتى وإن كانت عبادة كما هو شأن الحج قال العز بن عبد السلام في فصل عنوانه في المشاق الموجبة للتخفيفات: "مشقة عظيمة فادحة كمشقة الخوف على النفوس والأطراف ومنافع الأطراف، فهذه مشقة موجبة للتخفيف والترخيص لأن حفظ المُهج والأطراف لإقامة مصالح الدارين أولى من تعريضها للفوات بعبادة أو عبادات"(2) وأي مشقة أعظم من تعريض الوطن إلى المخاطر والمهالك. 4) المصلحة العامة هي الأصل والتضحية بالمصلحة الخاصة أمر جائز عند الضرورة قال الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور في تعريفه للمصلحة العامة بأنها: "ما فيه صلاح عموم الأمة أو الجمهور ولا التفات منه إلى أحوال الأفراد إلا من حيث إنهم أجزاء من مجموع الأمة"(3) أما ابن نُجيم فقد لخص المسألة كلها بتفريعاتها في قوله: "يُتَحَمَّلُ الضرر الخاص لأجل دفع الضرر العام"(4) الأمر الذي يعني أنه على المؤمنين أن يرجئوا شعيرة الحج دفعا لِما يمكن أن تتعرّض له الأمة من مشقة في حاضرها ومستقبلها. 5) حق العبد مقدّم على حق الشرع كما يقول الفقهاء، إذ كلما تعارضت الأحكام الشرعية مع مصالح المكلفين إلا وقدّمت هذه الأخيرة لأن المقصود من الشرع هو حفظ الجماعة وتمكينها ممّا ينظم حالها ويؤدي بها إلى القوة والمناعة، وقد عقد العز بن عبد السلام فصلا في المسألة عنوانه فيما يُقدّم من حقوق العباد على حق الربّ رفقا بهم في دنياهم، قال خاتمة المحققين ابن عابدين (ت1836م): "قوله لتقدّم حق العبد أي على حق الشرع لا تهاونا بحق الشرع بل لحاجة العبد وعدم حاجة الشرع ألا ترى أنه إذا اجتمعت الحدود وفيها حق العبد يُبدأ بحق العبد لِما قلنا ولأنه ما من شيء إلا ولله تعالى فيه حق فلو تقدم حق الشرع عند الاجتماع بطل حقوق العباد كذا في شرح الجامع الصغير لقاضي خان وأمّا قوله عليه الصلاة والسلام فدين الله أحقّ فالظاهر أنه أحقّ من جهة التعظيم لا من جهة التقديم"(5). 6) نصّ الأصوليون على قاعدة فقهية جليلة نصّها درء المفاسد أولى من جلب المصالح وهي قاعدة يقع الاستئناس بها عند تعارض المصالح والمفاسد يقول ابن نُجيم: "فإذا تعارضت مفسدة ومصلحة قُدِّم دفع المفسدة غالبا لأن اعتناء الشرع بالمنهيات أشدّ من اعتنائه بالمأمورات.... ومن ثمّ جاز ترك الواجب دفعا للمشقة"(6) وفي الموضوع المبحوث نلحظ أن السماح لمواطنينا بأداء فريضة الحج هذا العام مفسدة تؤدّي حتما إلى الإضرار بالاقتصاد وإهدار الثروة العمومية، لذا يبيح الشرع العزيز تأجيل القيام بهذه الشعيرة اتساقا مع القاعدة الأصولية سالفة الذكر. 7) جاء في الفتاوى الهندية:"وإذا كان له منزل يسكنه ويمكنه أن يبيع ويشتري بثمنه منزلا أَدْوَنَ منه ويحجّ بالفضل لم يلزمه ذلك"(7) الأمر الذي يعني أن الفرض يسقط في الحالة التي تصبح فيها الشعيرة تكليفا بما لا يطاق أو سبيلا لإهدار الأموال، قال الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور: "لأن الله تعالى ما شرع التكليف إلا للعمل واستقامة أحوال الخلق فلا يكلفهم ما لا يطيقون فعله"(8) وقال ابن قيم الجوزية: "فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجَوْر وعن الرحمة إلى ضدّها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل"(9). تأسيسا على ما ذكر أعلاه ندعو مواطنينا إلى رعاية الله في هذا الوطن ونحثهم على الإمساك عن أداء فريضة الحج هذا العام وهم في فعلهم هذا يستجيبون للمقاصد الأساسية للشرع وأولها ما يسّر به على خلقه مثل: " تخفيف الإسقاط كإسقاط العبادات عند وجود أعذارها"(10) ولا التفات لمن يقول بغير هذا لأن شرط الاستطاعة الذي هو شرط وجوب غير متوفر اليوم وهو عذر كاف ليسقط به فرض الحجّ عن عباده مؤقتا، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"إن الله يحبّ أن تؤتى رخصه كما يحبّ أن تؤتى عزائمه". الهوامش 1) "التحرير والتنوير" 4/24، وبداية المجتهد 1/324 والقوانين الفقهية لابن جزي129. 2) "القواعد الكبرى الموسوم بقواعد الأحكام في إصلاح الأنام" للعز بن عبد السلام، تح نزيه كمال حمّاد وعثمان جمعة ضميرية، دار القلم، دمشق 2000، ط1، 2/14. 3) مقاصد الشريعة الإسلامية ص65 و66. 4) "الأشباه والنظائر" لابن نجيم، تح محمد مطيع الحافظ، دار الفكر، سوريا 1983، ص96. 5) "ردّ المحتار على الدرّ المختار" 2/144. 6) الأشباه والنظائر، ص99 و100 7) الفتاوى الهندية 1/218. 8) التحرير والتنوير 3/135. 9) "أعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم الجوزية، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل، بيروت دون تاريخ، 3/3. 10) الأشباه والنظائر ص91 و92.