يبدو غريبا طرح هذا السؤال حتى قبل أن يستغرق الفرقاء في اجتماعاتهم الماراطونية ولكنّ الحراك والتجاذبات الداخلية التي تشهدها كل الأحزاب بلا استثناء، تجعل السؤال عن جدية الحوار هو أساس كل تفاؤل أو تشاؤم ويمكن من خلاله قراءة مسار المبادرة الرباعية. إنّ الاستبشار بإمضاء الأغلبية الحاضرة على خارطة الطريق قد لا يكفي لتأمين التوصل بنجاح إلى توافقات مهمة يترقبها الرأي العام المحلي وحتى الدولي بكل انتباه وحبس للأنفاس لِمَا للنتائج، مرضية كانت أو سلبية، من تداعيات آنية ومستقبلية على مسار الانتقال الديمقراطي وعلى مستقبل البلاد. هنا نسترجع الساعات الطوال التي سبقت الحفل البروتوكولي والتي أكدت أنّ الهوّة مازالت عميقة بين الفرقاء في تأويل وقراءة نصّ المبادرة، لذلك فإن الإمضاء على خارطة الطريق من عدمه لا يعني شيئا والاستدلال به كالتزام أخلاقي مكتوب لا يُعْتَدُّ به مع تعدّد القراءات لنصّ واحد!. ضربة البداية كانت لحزب «المؤتمر» الذي رفض إمضاء الخارطة واعتبرها غير قابلة للتطبيق في الآجال الزمنية المذكورة في التفاصيل، صحيح كان معه حزبان في الرفض ولكن الفرق هو أنّ المؤتمر هو جزء مهم من ثلاثي الحُكم ولذلك فإنّ أيّ موقف صادر عنه يُلزم ضمنيا الطرفيْن الآخريْن معه ،«النهضة» و«التكتل»، حتى وإنْ كانا من الممضين. نتذكر هنا تصريحات المولدي الرياحي قبل التوقيع حين قال أنهم يقبلون الخارطة ولكنهم لن يمضوا اليوم، وعليه ورغم إمضاء الطرفيْن(«النهضة» و«التكتل») بعد ذلك، فإنّ رفض «المؤتمر» العلني هو الموقف الحقيقي ل«الترويكا» الحاكمة!. يكفي العودة إلى بيان مجلس شورى «النهضة» للتأكّد من عدم التقاء مبادرة الرباعي مع ما تطرحه «النهضة» وحليفاها. فإذا كانت المبادرة قائمة على فصل المسار التأسيسي عن المسار التنفيذي(الحكومة) فإنّ تفاصيل بيان مجلس شوري «النهضة» يجعل منهما توأميْن متلازميْن لا ينفصلان أبدا في عودة مباشرة لاقتراحها الأول الذي ينصّ على حكومة انتخابات فحسب محدَّدَة المهام، لنجد بذلك «الترويكا» بكل مكوّناتها ومع اختلاف في التفاصيل، بالإمضاء أو بدونه، خارج المبادرة لا داخلها!. في الضفة الأخرى، ورغم سعي المعارضة إلى الظهور بثوب الملتزم بالنص الكامل للمبادرة، فإنّ خوف مكوّناتها من تململ بدا واضحا في صفوف قياداتها الوسطى خصوصا وقواعدها، جعل خطابها متعدّدا ومرتبكا في محاولة لتبرير نزول سقف مطالبها إلى الأدنى دون أيّ استثمار ناجح لاعتصام باردو. وانحسار مجال المناورة لديها جعلها تتأرجح في مواقفها بين «إكراهات» الإمضاء حتى لا يُحسب عليها رفض الحوار وبين إقناع قواعدها فضاع صوتها بين الاتجاهيْن، ولعلّها قد تعمد في جلسات الحوار المقبلة إلى الاكتفاء بترصّد أيّ خطأ أو موقف ل«الترويكا» لتعيد الترفيع في سقف مطالبها فقط لإرضاء قواعدها التي صدّقت في لحظة ما وعود قياداتها بحلّ التأسيسي وإسقاط الحكومة بل وإسقاط النظام!. في الحالتيْن، يبدو أنّ القبول بالمبادرة من طرف السلطة والمعارضة كان «إكراها» لم يكن تجنّبه ممكنا حتى لا يعطي أحد الطرفيْن للآخر الذريعة برفض الحوار، ولم يكن مع الأسف القبول قائما على شجاعة متبادلة لوضع كل الملفات الساخنة على الطاولة والعمل بصفة مبدئية للتوصّل إلى توافقات حقيقية مطمئنة للمواطن البسيط بعيدا عن الحسابات السياسوية وعن الخضوع لأحلام القواعد الطوباوية. المبادرة فرصة هامة أخرى قد تضيع ما لم يراجع الطرفان مواقفهما المعلَنة والخفيّة!.