بطون خاوية... أطفال بلا دراسة وبنات مقهورات التونسية (القليعة فرنانة) ألم وجرح ينزف في هذا المكان ...وجع لم يكتب له ان يستكين ولم يكتب له الشفاء بعد...هنا الكل يحبس انفاسه في انتظار « الفرج» .. وأملا في أن يتحقق أمل وحلم تطليق الفقر والتخلص من لعنة الخصاصة وضيق اليد. في القليعة هذه المنطقة النائية الواقعة بمعتمدية فرنانة قرب عين دراهم الابصار شاخصة والدموع جفت في العيون من اجل رغيف خبز يسد الرمق قد يأتي او لا يأتي... هنا معركة الامعاء الخاوية على اشدها معركة فرضتها طبيعة الحياة في هذا المكان الذي طغى قبحه على جماله فلا موارد رزق ولا حياة لمن تنادي فقط رحلات المجهول بامضاء وسطاء –نخاسة من نوع خاص- يستثمرون طاقاتهم في تهجير البنات اليافعات للعمل في البيوت بلا ضمانات ...اما الرجال والشباب فلهم «المرمّة» الموسمية أوبئس المصير ولا خيار ثالث بينهما ... هنا في هذه الربوع الامس هو اليوم واليوم هو المستقبل فعقارب الساعة تسير في خط واحد والزمن «آهة واحدة» وحلم التغيير في «نافخات زمرة». أهالي المنطقة لا يعلمون شيئا عن «التأسيسي» والحوار الوطني ولعبة الكراسي التي قامت من اجلها الدنيا ولم تقعد في حين ظلت معاناتهم وزفراتهم طي الكتمان تنتظر اشارة انطلاق الحملة الانتخابية حتى ينطلق موسم الهجرة الى المنطقة من اجل حفنة من الأصوات تؤمن ل«سماسرة السياسية» كراسي السلطة والنفوذ والجاه. الطبيعة ساحرة وفيافيها وخضرتها تزيد من روعتها وجمالها لكنه جمال القنديل على قبر البؤس بعد ان طلت علينا مأساة في قبح كل الكلام الذي يوصف به القبح حيث ظهر طفل صغير-لا يتجاوز الست سنوات- شبه حافي القدمين عيناه شاخصتان يمسك بيده خفافا به نبتة يستعطف المارة أن تمتد أياديهم إلى جيوبهم ليأخذ منهم بعض الملاليم ...يشتري بها قوت عائلته التي تتضور من شدة العجز ...اقتربنا منه... حاولنا جمع بعض المعلومات عنه وان كانت تقاسيم وجهه نطقت بما لم ينطق به لسانه الذي توارت كلماته خلف حيائه وتعففه. قال إن والده لم يستطع توفير ثمن مستلزماته المدرسية فاضطر إلى الانقطاع عن دراسته لمساعدة والده الذي يعاني من مرض عضال ووالدته التي أعياها العمل في المنازل اذ اشتغلت معينة منزلية منذ أن كانت في سن السابعة ولم تعد قادرة اليوم على ذلك ...المشهد تكرر أمامنا ولكل طفل حكاية لا نملك حيالها سوى صمت الخشوع لهول مصاب هذه البراعم ...الذي يتلاشى مع ابتسامتهم التي تظل عنوان تحدّ لصغار بعقول الكبار ... وقد علمنا عبر بعض المصادر أن نسبة انقطاع تلاميذ الإعدادي عن مواصلة الدراسة تبلغ 85بالمائة وذلك حسب آخر الإحصائيات المجراة... لم نستطع أن نضع نقطة النهاية وكأنّ أنين هذا المكان بلا نهاية حيث التقينا عجوزا تجاعيدها شاهدة على سنوات من المأسي اذ مات زوجها وابناها لأنها لم تمتلك ثمن العلاج وهي اليوم تواصل ما تبقى من مرّ أيامها وحالك لياليها. قالت انها لم تحلم أبدا منذ أن كانت طفلة عمرها خمس سنوات...تضطر لقطع كيلومترات داخل الغابة لتحمل بعض الحطب ثم هي لم تنس حكاية والدها الذي جرفه الوادي في فصل الشتاء بعد ان ذهب للعمل في احد التلال بمدينة طبرقة للقيام ب«المردومة» –عبارة عن حطب يغطى بالطين ....ثم يحرقونه ليتحول إلى فحم –لتعيش اليتم والفقر ثم تتزوج بفقير ومعاق وتنجب ابنين يموتان فهي من يتيمة الى ثكلى بل هي والفقر توأم. ...اما اليوم فلم يعد يعنيها أي شيء ولا تطالب سوى ببعض الاهتمام بالجيل الضائع فالحرمان كسر من نفسها ورغم انها لا تملك أي شيء فإنها لم تعد ترغب في شيء إنه اليأس وماذا مازال يعنيها من الدنيا وقد باتت في خريف العمر؟ معاناة ناطقة ... بعد أن انهينا الحديث مع «خالتي فاطمة» ولجنا إلى نقطة أخرى من «القليعة» ليلفحنا هجير الاكواخ وما حملته لنا من مفآجات أو بالأحرى من كوارث. البداية كانت مع عائلة الصادق بن يوسف اللقطي وهي عائلة تتركب من ستة أفراد – أربع بنات وولدان – لم يلتحقوا بمقاعد الدراسة لبؤسهم... سعوا جاهدين لتوفير لقمة العيش لكنهم لم يظفروا بمورد رزق يخلصهم من الشقاء والحرمان فكلهم يعيشون من بعض المال الذي توفره الشقيقتان اللّتان تعملان ببعض المنازل غير أن هذا النزر القليل من المال لا يكفي لسد رمق هذه الأفواه الجائعة التي تضطر أحيانا إلى البقاء أياما كثيرة والبطون خاوية في انتظار رغيف خبز قد تجود به إحدى الاسر الميسورة إن تكرمت بذلك. والدهم يؤكد أن العجز وضنك العيش بهذا الكوخ قصما ظهره... فهو لا يدرك معنى حياته إلا عندما تبزغ الشمس التي تضيء هذا «القبر» الذي يجبر على العيش فيه... فلا خيار أمامه غير الصبر في انتظار أن يطل يوما قد يحمل معه أنباء سعيدة تعيد إليه الأمل في الغد الذي بدا بعيدا جدا فلعل رحمة الغيب اقرب ...قبل أن تطبق المنية ذراعيها على روحه ... المعاناة نفسها تتكرر ونحن نقف على كوخ عمارة اللقطي وهو رجل عليل بترت رجله... لا يستطيع النهوض من فراشه في مكان تفتقد فيه أدنى مقومات العيش الكريم. فجميع المقيمين به عاطلون عن العمل لا يجدون ما يسدون به رمقهم وتظل بطونهم خاوية لايام... أغطية بالية وحشايا مفقودة ماعدا بعض الأغطية المهترئة يضعونها فوق أسرّة تخشى حتى أن تضع فوقها جسمك خوفا من أن تسقط من فوقها ,سقف الكوخ لا يحمي من القر ولا من الحرّ. ففي فصل الشتاء وعندما تتهاطل الأمطار بغزارة تتدفق المياه إلى الداخل وتزيد الحياة ضنكا. « عمّ عمارة» أكد أنه اتصل مرارا بالمسؤولين وطرق كل الأبواب آملا في مساعدته على إيجاد عمل لأحد أبنائه يعيل به الأسرة لكن لا حياة لمن تنادي... أما اللباس فهو غاية لا تدرك تكفيه ملابس بالية يجود بها الميسورون .ويضيف محدثنا أن أبناءه لم ينعموا يوما واحدا بملابس جديدة حتى في عيد الفطر أو بلعب كغيرهم من أترابهم ورغم ذ لك لم يتبرموا يوما تراهم سعداء باللعب في البرية رغم أن الطريق وعر لكنهم تعودوا عليه وعلى الحيوانات الضارية الموجودة به –الخنازير ,الثعابين وغيرها –التي ألفوا تواجدها رغم خطورتها على حياتهم . محدثنا رغم مرضه وعجزه لم يجد الإحاطة اللازمة من المسؤولين الذين لم يكترثوا إلى وضعه المزري ويتمنى بدوره أن يكون التغيير الذي شهدته البلاد طالع خير عليه وعلى المحتاجين أمثاله الذين عاشوا لسنوات الفقر والتهميش لينعم ولو لمدة قصيرة –ماتبقى من عمره –بحياة كريمة لابؤس ولاجوع فيها . غير بعيد عن هذا الكوخ الذي يقطنه «عمّ عمارة» تسكن عائلة «صالح» المتكونة من ابنين عاطلين عن العمل واربع بنات يعملن في البيوت بين الفينة والأخرى عندما يحتاجهن بعض الاغنياء... سقف الكوخ الذي يأويهم من القش وظروفهم تتطابق مع سابقيهم معاناة ناطقة مرتسمة على ملامح الوجوه الشاحبة التي فقدت الحيوية حتى بدت كالأرض البور التي تنتظر الغيث حتى تروى وتتجدد لكن من يسمع أنين هذه الاسر وغيرها . هذه عيّنة من متساكني هذه المنطقة لان جميعهم يعيشون نفس الظروف ويقيمون بمساكن بدائية –أكواخ بالقش أو مغطاة بالزنك –كما أنهم يفتقرون إلى الماء الصالح للشرب حيث يقطعون مسافة طويلة ويتحملون المشاق لجلب الماء من عين تشرب منها الحيوانات الضارية –كالخنازير ,الذئاب وابن آوى وبعض الحيوانات الأليفة –وهو ما يمكن أن يتسبب لهم في حالات تسمم قد تؤدي بهم إلى الهلاك لكن ليس امامهم من حل غير الإذعان لقساوة ظروفهم . هذه الظروف المعيشية الصعبة اضطرت الاطفال الذين شاهدناهم إلى الانقطاع عن الدراسة لضيق اليد من ناحية والى طول المسافة التي يقطعونها (12كلم) في مسالك وعرة وملئية بالثعابين والخنازير للوصول إلى المدرسة الابتدائية التي تحتاج بدورها إلى الإصلاح والترميم لحالتها المتدهورة وقد عسرت هذه الظروف مهام رجال التعليم في إتمام رسالتهم النبيلة والحط من نسبة الأمية المستفحلة في المنطقة . الليل يولج في النهار ... كانت هذه هي آخر الكلمات التي وقفنا عليها في اخر المطاف فظلمة الليل تطغى على هذا المكان ونور النهار لم يأت بعد والأهالي ملوا الانتظار والوعود. أحدهم قال لنا إنه فكر العديد من المرات في بيع كليته الى احد الاثرياء الليبيين الذي زار منطقة عين دراهم اثناء استجمامه ثم عدل عن ذلك لان رغبته في الحياة أقوى وتمسكه بالامل يبقى هو الطاقة التي يتزود منها ليواصل المشوار فقد يحمل الغد «المهدي المنتظر» وقد تنحت احدى الصدف ربيع هذه المنطقة ...