بقلم: خالد الكريشي في محاولة لإيهام نفسه بأن ما تعيشه المدينة من بلايا ومشاكل ليست سوى أحلام مزعجة. يقول الدكتور ريو بطل رواية « الطاعون» لآلبير كامو : «البلية غير حقيقية ،إنها حلم مزعج سيمرّ، ولكنه لا يمر دائما ، ومن حلم مزعج إلى حلم مزعج»، لكني حلمت – لا أعلم إن كان حلما جميلا أم مزعجا - ذات ليلة أنه تم تقديم مشروعي قانونين أساسيين لمجلس نواب الشعب الأول يتعلق بإحداث لجنة برئاسة ممثل رئيس الحكومة وعضوية ممثلين عن وزارات الداخلية والعدل والخارجية وممثليْن إثنين عن الهيئة العليا المستقلة للإنتخابات التي مهمتها الإعداد والإشراف على الانتخابات البلدية موفى 2016؟؟ أما الثاني فيتعلق بإحداث لجنة برئاسة ممثل رئيس الحكومة وعضوية ممثلين عن وزارات الداخلية والعدل والمالية وممثلين إثنين عن الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري ومهمتها منح تراخيص البث للقنوات التلفزية الجديدة ؟؟ وحلمت أن تقديم مشروعي القانونين كان بسبب تأخر الهيئة العليا المستقلة للإنتخابات في إنجاز الانتخابات البلدية التي كان من المفروض أن تتم هذه السنة وعدم صدور القانون الانتخابي الخاص بها؟؟، وبسبب المشاكل التي أثيرت حول منح تراخيص البث التلفزي وصلت الأمور إلى قاعات المحاكم، وتعطل عقد مجلس هيئة الاتصال السمعي والبصري لعدم توفر النصاب القانوني بعد الإستقالات الثلاثية لأعضائها ؟؟. وفي زخم هذا الجدل المترامي الأطراف الدائر رحاه حول مشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية المقدم مؤخرا من رئاسة الجمهورية ومحاولة البعض سحب البساط من تحت «هيئة الحقيقة والكرامة» وتقليص صلاحياتها القانونية في انجاز المصالحة الوطنية عامة والمصالحة الاقتصادية والمالية خاصة في إلتفاف واضح فاضح على مسار العدالة الانتقالية، ظهرت بعض الأصوات قائلة بعدم دستورية «هيئة الحقيقة والكرامة» لتُناقضها أصوات أخرى تؤكد على دستوريتها وأن هذه الحقيقة واضحة دامغة لا تحتاج الى إثبات، فإثبات الواضحات من الفاضحات،لكن أصحاب هذه الآراء المتناقضة والمتعارضة في آن لم يكلّفوا أنفسهم عناء تأسيس مواقفهم على أسانيد قانونية قوية. وإن حاول أصحاب الرأي الأول الاعتماد على المعيار الشكلي فقط والاستناد على ظاهر النص الدستوري الذي لا يعكس بالضرورة حقيقته ومقصد المشرّع وعلى ما ورد بالباب السادس من دستور جانفي 2014 الذي ذكر الهيئات الدستورية «حصرا» وهي الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وهيئة الاتصال السمعي البصري وهيئة حقوق الانسان وهيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة وهيئة الحكومة الرشيدة ومكافحة الفساد، مسقطا بذلك هيئة الحقيقة والكرامة متغافلين عن أنّ هذا التعداد ورد بعد الفصل 125 من الدستور في طالع تقديم الهيئات الدستورية بالباب السادس منه باعتباره النص المرجع والمؤطر للمعايير الموضوعية لخلع صفة «الدستورية» عن هيئة عمومية ما إذ جاء فيه : « تعمل الهيئات الدستورية على دعم الديمقراطية وعلى كافة مؤسسات الدولة تيسير عملها، تتمتع هذه الهيئات بالشخصية القانونية والاستقلالية الإدارية والمالية وتنتخب من قبل مجلس نواب الشعب بأغلبية معززة وترفع اليه تقريرا سنويا يناقش بالنسبة لكل هيئة في جلسة عامة مخصصة للغرض. يضبط القانون تركيبة هذه الهيئات والتمثيل فيها وطرق انتخاباتها وتنظيمها وسبل مساءلتها» وأمام كلّ هذا فإنّ سؤالا يطرح نفسه هو: هل تنطبق هذه المعايير على «هيئة الحقيقة والكرامة» لكي نخلع عليها صفة الدستورية؟. 1/ العمل على دعم الديمقراطية. تأسست «هيئة الحقيقة والكرامة» بمقتضى القانون الأساسي عدد 53 المؤرخ في 24 ديسمبر 2013 المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها وهي المؤسسة القانونية الاصلية والرئيسية - إن لم تكن الوحيدة - المؤتمنة على إنجاح مسار العدالة الانتقالية والمرتبط إرتباطا وثيقا لا فكاك منه بمسار التحول الديمقراطي ،تؤثر فيه وتتأثر به، فهي عدالة الانتقال من حالة الاستبداد إلى حالة الديمقراطية، ومن دولة اللاقانون ودولة الفساد إلى دولة القانون والمؤسسات الخالية من الفساد بمختلف اشكاله وأوله الفساد المالي، وذلك بتصفية تركة الانتهاكات الجسيمة و/ أو الممنهجة لحقوق الانسان الواقعة في الفترة الممتدة من الأول من جويلية 1955 الى غاية 31 ديسمبر 2013 وضمان عدم تكرارها في المستقبل الذي يتعايش فيه كل الفرقاء بعد تحقيق المصالحة الوطنية بينهم ولا تنتهك فيه الحقوق والحريات العامة والفردية ، فمن مهام «هيئة الحقيقة والكرامة» العمل على ضمان إنتقال مدني سلمي من حالة الاستبداد إلى نظام ديمقراطي يساهم في تكريس منظومة حقوق الانسان.(1) تعمل «هيئة الحقيقة والكرامة» كمؤسسة عمومية من مؤسسات التحول الديمقراطي وآلية لترسيخ قيم الحرية والعدالة والديمقراطية على تجاوز مناخ الحقد والتشفي والانتقام التي كانت سائدة في ماضي تونس وبناء صرح الديمقراطية لبنة بعد الأخرى تدريجيا وعلى أسس راسخة قوامها روح التسامح والمصالحة داخل المجتمع حتى لا تتحول العدالة الانتقالية الى عدالة إنتقامية أو إنتقائية، بعيدا عن ثقافة القصاص والثأر وذلك بإعمالها للآليات القانونية التي منحها لها المشرّع بداية من كشف الحقيقة وصولا الى تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة مرورا بمساءلة ومحاسبة مرتكبي انتهاكات الماضي وجبر ضرر ضحاياها وحفظ ذاكرتهم الفردية والجماعية وإصلاح المؤسسات المساهمة في الانتهاكات وإجراء التحكيم مع مرتكبي الانتهاكات الجسيمة و/ أو الممنهجة لحقوق الانسان بشرط موافقة الطرفين (المصالحة على المستوى الفردي) وتهدف المصالحة الى تدعيم الوحدة الوطنية بين أبناء الشعب الواحد وتحقيق العدالة والسلم الأهلي في المجتمع وتكريس دولة القانون وإعادة ثقة المواطن في مؤسسات الدولة وهو ما أكده خبراء المركز الدولي للعدالة الانتقالية «عادة ما تنشأ في غمار عملية تحول وانتقال اما من الحرب الى السلم او من الحكم التسلطي الى الديمقراطية، تصب اهتمامها على الماضي ، تحقق في أنماط إنتهاكات معينة ارتكبت على مدار فترة من الزمن، لا حول حدث واحد بعينه ، تحتم عملها بتقديم تقرير نهائي يضم استنتاجاتها وتوصياتها ، وتركز في عملها على انتهاكات حقوق الانسان وعلى المعايير الإنسانية».(2) وتعتمد «هيئة الحقيقة والكرامة» في عملها على مرجعيات متنوعة متعددة يجمع بينها مبادئ حقوق الانسان وإنفاذ القانون وقيم ومبادئ الثقافة الديمقراطية، وهي بذلك قوة إقتراح معنوية وأخلاقية هامة لدعم أسس الديمقراطية بتأسيس فضاء للحوار والأفكار المتعددة وإصدار تقرير ختامي يتضمّن مقترحات وتوصيات حول سبل بناء الدولة الديمقراطية وتعمل الحكومة ومجلس نواب الشعب على تنفيذها بالتعاون مع مكونات المجتمع المدني(3). 2/ إلزام الدولة بدعمها وتيسير عملها أو «في عمومية الهيئة». «هيئة الحقيقة والكرامة» هيئة عمومية من هيئات الدولة وان كانت مستقلة عن أي جهاز من أجهزتها ، وهي ليست بجمعية أو نقابة أو حزب أو مجموعة ضغط بل مؤسسة عمومية كلفها القانون بالعدالة الانتقالية كمرفق عام لفترة زمنية محددة، أوجدتها السلطة التشريعية التأسيسية وتحظى بالدعم المالي من المال العام. فللهيئة ميزانية مستقلة تتكون أساسا من اعتمادات سنوية مخصصة من ميزانية الدولة (الفصل 64 من قانون العدالة الانتقالية) وإضافة الى هذا الدعم المالي فان السلطة القضائية ما فتئت تدعم عمل «هيئة الحقيقة والكرامة» سواء عبر العمل المشترك أو بإلحاق العديد من قضاة التحقيق بمصالح الهيئة التي ستحيل ملفات الانتهاكات على الدوائر القضائية المختصة. كما ألزم قانون العدالة الانتقالية كلّ مصالح الدولة والهيئات العمومية واللجان والجماعات المحلية والمؤسسات والمنشآت العمومية والموظفين العموميين دعم عمل «هيئة الحقيقة والكرامة» وذلك بالتعاون مع رئيسها ومده «بتصاريح تتضمن كل ما بلغ إليهم وما أمكن لهم الحصول عليه في قيامهم أو بمناسبة قيامهم بمهامهم من معلومات ومعطيات تندرج ضمن مهام الهيئة أو من شأنها أن تساعد هذه الأخيرة على القيام بالمهام المنوطة بعهدتها على أحسن وجه» (الفصل 51 من قانون العدالة الانتقالية). و للهيئة كذلك الاستعانة بأعوان السلطة العامة لتنفيذ مهامها المتصلة بالتقصي والتحقيق والحماية ...ومطالبة السلط القضائية والإدارية والهيئات العمومية وأي شخص طبيعي أو معنوي بمدها بالوثائق أو المعلومات التي بحوزتهم . و في 30 سبتمبر 2014 أصدر رئيس الحكومة السابق المهدي جمعة المنشور عدد 24 لسنة 2014 المتعلّق بتيسير إنجاز «هيئة الحقيقة والكرامة» ومهامها وقد أكد فيه إلتزام الدولة بمنظومة العدالة الانتقالية تطبيقا لأحكام الفصل 148 النقطة التاسعة من الدستور ودعمها لعمل «هيئة الحقيقة والكرامة» داعيا كل السلط العمومية وكافة الوزراء وكتاب الدولة والرؤساء المديرين العامين والمديرين العامين للمؤسسات والمنشآت العمومية الى ضرورة دعم عمل «هيئة الحقيقة والكرامة» وتيسير عملها وتمكينها من الوسائل الضرورية للقيام بمهامها على أحسن وجه . فالدولة ملزمة بدعم «هيئة الحقيقة والكرامة» بكل الوسائل المادية والتشريعية والمالية وتدعيم صلاحياتها وتذليل الصعوبات أمامها وإزالة كل العراقيل والمعوقات التي تمنعها من أداء المهام المنوطة بعهدتها ولا يمكن للدولة أن تنتصب كجهاز مواز أو منافس لها عبر إصدار قوانين موازية تحدّ بمقتضاها من صلاحياتها وتعطل عملها. يتبع (1) - نص الفصل الأول من قانون العدالة الانتقالية على ان: «العدالة الانتقالية على معنى هذا القانون هي مسار متكامل من الآليات والوسائل المعتمدة لفهم ومعالجة ماضي انتهاكات حقوق الانسان بكشف حقيقتها ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها وجبر ضرر الضحايا ورد الاعتبار لهم بما يحقق المصالحة الوطنية ويحفظ الذاكرة الجماعية ويوثّقها ويرسى ضمانات عدم تكرار الانتهاكات والانتقال من حالة الاستبداد الى نظام ديمقراطي يساهم في تكريس منظومة حقوق الانسان. (2) - مارك فريمان وبريسيلا بهاينرن: المصارحة (نيويورك: المركز الدولي للعدالة الانتقالية 2004). (3)- ألزم الفصل 67 من قانون العدالة الانتقالية «هيئة الحقيقة والكرامة» بأن تضمن بتقريرها الختامي «التوصيات والمقترحات والإجراءات التي تعزز البناء الديمقراطي وتساهم في بناء دولة القانون».