16 خفايا دخول أمريكا الحرب العالمية الثّانية في أكتوبر 2003 نشر الكاتب والصحفي المصري الكبير والراحل محمد حسنين هيكل كتابه المعنون «الامبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق» وسرعان ما نفذت النسخ المطبوعة في العالم ليتم طبع نسخة أخرى من الكتاب في ديسمبر 2003 أي بعد شهرين فقط من صدور الطبعة الأولى... ولعل ما يلاحظ في هذا الكتاب مقدمته التي اقتصر فيها الكاتب الراحل على جملتين فقط تحملان بعد نظر الرجل وتكشفان رؤيته للأحداث التي ستتشكل في السنوات القادمة في العالم عموما وفي الوطن العربي خصوصا. وقد جاء في المقدمة: «هذه الفصول قصة وقائع سياسية قائمة، وهي في نفس الوقت تشكل أحوال سياسة قادمة». والذي يطالع ما جاء في الكتاب يكتشف أن هيكل كان يدرك أن غزو العراق الذي كان قد تم لم يكن الاّ حربا أولى في المنطقة سعت اليها أمريكا في اطار مخطّط سرّي لبناء شرق أوسط جديد تعيش اليوم المنطقة على ايقاعاته... فما يحدث اليوم بالشرق الأوسط من حروب ودمار ماهو إلا تعبيرة من تعبيرات سيناريو «الفوضى الخلاقة» الذي وضعته الإدارات الأمريكية المتعاقبة على مدى ال 40 سنة الفارطة لتأمين سيادة مطلقة لأمريكا على العالم. «التونسية» تنشر مقتطفات مطوّلة من كتاب هيكل المليء بالأحداث والأسرار.في بداية الحرب العالمية الثانية بدت الشواهد أمام «روزفلت» مثيرة للقلق، فبريطانياوفرنسا اللتان دخلتا الحرب أخيرا (سبتمبر 1939) بعد سلسلة من التراجعات المهينة أمام «هتلر» (الذي ضم النمسا بالكامل وقضم نصف تشيكوسلوفاكيا، واستعد لالتهام أجزاء من بولونيا) لا تظهران عبر المحيط مستعدتين للحرب، وأول شاهد أن البلدين معا يملكان نحو ألف طائرة قاذفة مقاتلة في حين أن «هتلر» استعد بقرابة ثلاثة آلاف طائرة، ونفس النسبة تقريبا في المدرعات، وفي البحرية إلى درجة أن الأسطولين البريطاني والفرنسى وقعا تحت تهديد أسطول هائل من الغواصات الألمانية الحديثة أصبح في مقدوره إغراق 500 آلف طن كل شهر من الحمولات البحرية للحلفاء! لكن أجراس الخطر راحت تدق في واشنطن عندما فوجئت بالسقوط السريع لفرنسا واستسلامها، ودخول الجيش الألماني لاحتلال باريس (جوان 1940) ثم تلا ذلك أن إيطاليا دخلت الحرب واعتقادها أن الحلفاء هزموا، وأن سقوط فرنسا لابدّ أن يتبعه استسلام بريطانيا. وكان البيت الأبيض يتابع بقلق وتوتر، وتوقع «روزفلت» أن «هتلر» يستعد لغزو بريطانيا عبر بحر الشمال (خطة أسد البحر) وكذلك انهمك الرئيس الأمريكي يبحث خطط طوراىء للتدخل على عجل في أوروبا قبل أن تتمكن ألمانيا من نصر نهائي يمكنها من الإرث الإمبراطوري الأعظم، لكن الزعيم الألماني «أدولف هتلر» ارتكب في تلك اللحظة الفارقة غلطة عمره، فقد تحول عن عملية «أسد البحر» إلى عملية غيرها في الشرق هي عملية «برباروسا» (غزو الاتحاد السوفياتي) وبها فإن «هتلر» لم يتورط في فيافي الثلوج الروسية فحسب، وإنما ضاعت على «ستالين» كذلك مزايا سياسة الصبر التي كان يلتزمها، وبدلا من أن يصبح وارثا إمبراطوريا، وجد نفسه يدافع عن حياته ذاتها! وتشجعت اليابان وكان «روزفلت» يريدها أن تتشجع وتدخل الحرب حتى ولو كان دخولها ضد الولايات المتحدة نفسها، وذلك ما فعلته طائرات أسطول الجنرال «ياماموتو» في «بيرل هاربور»، وكان «روزفلت» يتوقعه ولعله سعى إليه، لكي يقنع الرأي العام الأمريكي أن الولايات المتحدة تدخل الحرب مضطرة للدفاع عن نفسها وليس بدافع إرث إمبراطوري تسعى إليه قيادتها المالية والاقتصادية والسياسية. ودخلت الولايات المتحدة إلى الحرب فعلا في ديسمبر 1941 وكانت الموازين قد مالت بشكل لا يقبل التباسا! ولم يضيّع «روزفلت» وقتا: 1 قبل بالاستراتيجية العليا للحرب كما وضعها الفيلد مارشال «آلان بروك» رئيس هيئة أركان الإمبراطورية (البريطانية)، وبمقتضاها فإن الحرب ضد «هتلر» لتحرير أوروبا تكون هي ميدان المجهود الأول للحلفاء ثم تجيء الحرب ضد اليابان في المرحلة الثانية، والتقدير أن هزم الدولة القائدة للمحور، وهي ألمانيا النازية يقضي على العدو الأكثر خطورة ويكشف حلفاءه الأضعف وراءه (اليابان وقبلها إيطاليا). 2 في مقابل هذا التأجيل للمعركة مع اليابان (وهي صاحبة الأولوية من وجهة نظر الرأي العام الأمريكي) فإن الولايات المتحدة تحصل على وضع خاص في دول الكومنولث القريبة منها أو القريبة من مسرح العمليات ضد اليابان عندما تجيء اللحظة، وعلى هذا الأساس انتشرت القواعد الأمريكية والتسهيلات وأدوات ووسائل النفوذ السياسي في كندا وفي أستراليا. 3 ومع حاجة بريطانيا الشديدة وعلى عجل إلى حشد من مدرعات جديدة تدعم مسرح العمليات في الشرق الأوسط، استعدادا للمعركة الكبرى في العلمين (أوت 1942) شحنت الولايات المتحدة فورا فرقة دبابات قوامها ثلاثمائة دبابة حديثة من طراز «غرانت»، ثم تعللت بأن وجود هذه الدبابات الأمريكية يتطلب حضورا أمريكيا مباشرا في ساحة الشرق الأوسط، وكذلك ظهرت قواعد أمريكية في المملكة العربية السعودية (الظهران)، وفي الخليج (مطار البحرين)، وفي مصر قاعدة (هاكستب) البرية، وهي مازالت حتى الآن تحمل هذا الإسم، ومطار «باين» وكان أيامها في الموقع الذي حل فيه مطار القاهرة الدولي الآن. ثم بدأت المشاركة الأمريكية عمليا في ميادين القتال بحملة «تورش» «Torch» التي نزلت بها القوات الأمريكية تحت قيادة الجنرال «دوايت أيزنهاور» في شمال أفريقيا، وكانت تلك هي العملية التي جرى ترتيبها والنزول بمقتضاها على شواطىء المغرب (في شبه رحلة بحرية سياحية، بعد أن جرى التنسيق مع جنرالات الجيش الفرنسي هناك، ممن بقوا بعيدين بعرض البحر عن حكومة «فيشي» التي استسلمت للألمان). ومن المغرب بدأ الاستعداد للقفز نحو صقلية (بالترتيب والتنسيق مع عصابات المافيا)، وكذلك راح التواجد العسكري الأمريكي حول البحر الأبيض يحتل مساحة أكبر من المشاركة العملية الأمريكية على جبهات القتال. ولم يلبث الرئيس «فرانكلين روزفلت» أن لحق بالقوات الأمريكية في شمال افريقيا، نازلا في ميناء الدار البضاء وفي استقباله قادة جيوشه، وأولهم «أيزنهاور» و«عمر برادلي» و«مارك كلارك» وبعدهم جنرالات فرنسا، ووسط الجميع سلطان المغرب «محمد بن يوسف» (محمد الخامس)! وطار رئيس الوزراء البريطاني «ونستون تشرشل» يلحق بحليفه الأمريكي الكبير في الدار البيضاء ! وفي المغرب بدأ رئيس الوزراء البريطاني يشك في نوايا صديقه «روزفلت»، ذلك أن خطط النزول في صقلية وهي هدف القمة بينه وبين الرئيس الأمريكي لم تأخذ وقتا طويلا، ثم اكتشف «تشرشل» أن حليفه وصديقه «روزفلت» يقضي كل وقته في محاولة لتأسيس وجود عسكري ونفوذ سياسي أمريكي في المغرب، وأنه دعا سلطان المغرب (محمد بن يوسف محمد الخامس) إلى عشاء بينهما في قصر «أنفا»، ثم راح يحدثه عن مستقبل بلاده بعد الحرب بعيدا عن فرنسا (وهي الدولة المستعمرة) وقريبا من أمريكا (وهي جارة مباشرة للمغرب على الشاطىء الآخر للأطلسي). وحين سمع «تشرشل» بما دار في العشاء، سارع الى لقاء «روزفلت» لحديث صريح تسجله محاضر الطرفين (البيت الأبيض و10 داوننغ ستريت مقر رئاسة الوزارة البريطانية)، وطبقا لهذه المحاضر فإن «ونستون تشرشل» لفت نظر «روزفلت» إلى أن بعض التصرفات الأمريكية في المغرب وفيها «بأمانة» عشاء الرئيس مع سلطان المغرب يمكن أن تغضب فرنسا وتخسرها كحليف في الحرب. وتساءل «روزفلت» «عن أي فرنسا يتحدث «ونستون» وأين فرنسا الآن؟» أليست هي بلدا احتله الألمان، ثم إننا نحن (وأنتم) تعهدنا بتحريره مع غيره من بلاد أوروبا التي سقطت أو استسلمت لهتلر؟». ورد «تشرشل» بأنه يقصد حركة فرنسا الحرة التي يقودها الجنرال «ديغول». وردّ «روزفلت» «بأنه لا يعرف شيئا عن هذه الحركة، وأنه سمع عن «ديغول»، لكن «ديغول» في رأيه اختراع لخلق شبح سياسي يمكن التعامل معه كممثل لفرنسا ولصالح بريطانيا!». ويضيف «روزفلت» «أن هناك فرنسا واحدة نصفها تحت احتلال ألمانيا مباشرة ونصفها الآخر تحت احتلال غير مباشر بمقتضى معاهدة استسلام وقّع عليها الماريشال «بيتان» رئيس الحومة الفرنسية في «فيشى» ويستطرد «روزفلت» «نحن لم نقطع علاقاتنا بهذه الحكومة في فيشي ولدي هناك ممثل رئاسي خاص كما تعلم هو الأميرال «ليهي» لكننا نعرف وهم يعرفون أنهم بلد محتل يتقرر مصيره مثل مصير غيره بعد التحرير. وحاول «تشرشل» تذكير «روزفلت» بأن كل عناصر المقاومة الفرنسية بما في ذلك كبار ضباط الجيش في الإمبراطورية الفرنسية وراء البحار وحكام المستعمرات، والتجمعات الفرنسية الكبيرة في الخارج والهيئات الفرنسية الكبرى (وفيها شركة قناة السويس الدولية) وقفوا جميعا وراء «ديقول» واعتبروه رمزا لإرادة المقاومة، وعليه فإنه إذا كان الماريشال «بيتان» يمثل فرنسا المحتلة أمام الألمان، فإن «ديقول» يجب الاعتراف به ممثلا فعليا لفرنسا الحرة خارج أوروبا، وحليفا في الحرب حتى يتحقق النصر.