إيران: الساعات القادمة ستشهد هجمات شرسة ضدّ إسرائيل    وزارة التجارة تدعو تجار التسويق والترويج عبر قنوات التوزيع الالكترونية إلى اعلام المستهلك بتفاصيل العروض المقترحة    ضاحية مونمارتر تحتضن معرض فني مشترك بين فنانة تونسية وفنانة مالية    صفاقس: تنظيم يوم الأبواب المفتوحة بمركز التكوين والتدريب المهني بسيدي منصور للتعريف بالمركز والإختصاصات التي يوفرها    "عليسة تحتفي بالموسيقى " يومي 20 و 21 جوان بمدينة الحمامات    باجة: اعادة اكثار واحياء قرابة 5 الاف صنف من الحبوب بنجاح    الدورة الأولى لتظاهرة "لقاءات توزر: الرواية والمسرح" يومي 27 و28    ماهر الكنزاري: ''لا ألوم اللاعبين على الخسارة، بل أنا فخور بالروح التي أظهروها داخل الملعب''    حياتي في الصحافة من الهواية الى الاحتراف    اصدارات جديدة لليافعين والاطفال بقلم محمود حرشاني    شنيا الماكلة اللي تنفع أو تضرّ أهم أعضاء بدنك؟    الاتفاق على احداث لجنة قيادة وبرنامج وطني لتفعيل "إعلان قرطاج" للصحّة الواحدة    الملعب التونسي يعزز صفوفه بالحارس نور الدين الفرحاتي    إيران تعتقل عميلا للموساد الإسرائيلي    تحذير طبي: خطر الاستحمام بالماء الساخن قد يصل إلى الإغماء والموت!    بطولة برلين المفتوحة (منافسات الزوجي): التونسية أنس جابر وشريكتها الاسبانية باولا بادوسا في الدور ربع النهائي    منوبة: فتح الجزء الثاني من الطريق الحزامية " اكس 20 " بولاية منوبة    المنتخب التونسي يشارك في بطولة افريقيا للرقبي السباعي بالموريس يومي 21 و 22 جوان الجاري    قفصة : حلول الرحلة الثانية لحجيج الولاية بمطار قفصة قصر الدولي وعلى متنها 256 حاجا وحاجة    ملتقى تونس الدولي للبارا ألعاب القوى: العناصر التونسية تحرز 9 ميداليات من بينها 5 ذهبيات    عاجل/ بعد انذار بوجود قنبلة..طائرة تابعة لهذه الخطوط تغير مسارها..    المائدة التونسية في رأس السنة الهجرية: أطباق البركة والخير    تونس ترشّح صبري باش طبجي لقيادة منظمة حظر الأسلحة الكيميائية    الكاف: تطوير القطاع الصحي بتدعيم طب الاختصاص وتوفير تجهيزات متطورة (المدير الجهوي للصحة)    بُشرى للفلاحين: انطلاق تزويد المناطق السقوية بمنوبة بمياه الري الصيفية    عاجل : ''طيران الإمارات'' تمدد تعليق رحلاتها إلى 4 دول    الحرس الثوري: استهدفنا مقر الموساد في تل أبيب وهو يحترق الآن (فيديو)    بشرى للمسافرين: أجهزة ذكية لمكافحة تزوير''البطاقة البرتقالية'' في المعابر مع الجزائر وليبيا    كأس العالم للأندية 2025: تعرف على جدول ترتيب مجموعة الترجي بعد الخسارة من فلامنغو    تعرفش علاش الدلاع مهم بعد ''Sport''؟    الدورة 12 من الملتقى الوطني للأدب التجريبي يومي 21 و 22 جوان بالنفيضة    الصين تتهم ترامب ب"صب الزيت على النار"    الجيش الإيراني يتوعد بتصعيد الهجوم على إسرائيل في الساعات المقبلة    موعد إعلان نتائج البكالوريا 2025 تونس: كل ما تحتاج معرفته بسهولة    الطقس اليوم: حرارة مرتفعة..وأمطار مرتقبة بهذه الجهات..    ترامب يهاجم ماكرون بعنف: ''لا يعرف سبب عودتي... ويُطلق تكهنات لا أساس لها''    عاجل/ آخر مستجدات أخبار قافلة الصمود لفك الحصار على غزة..    مطار طبرقة عين دراهم الدولي يستأنف نشاطه الجوي..    تحويلات التونسيين والسياحة تغطي أكثر من 80٪ من الديون الخارجية    أبرز ما جاء في لقاء رئيس الدولة بوزيري الشؤون الاجتماعية والاتصال..    الحماية المدنية : إطفاء 192 حريقا خلال ال 24 ساعة الماضية    عاجل/ رئيس الدولة يفجرها: "لا أحد فوق المساءلة والقانون..ولا مجال للتردّد في إبعاد هؤلاء.."    6 سنوات سجنا لنائب سابق من أجل الإثراء غير المشروع    كأس العالم للأندية : برنامج مباريات اليوم الثلاثاء    هيونداي 9 STARIA مقاعد .. تجربة فريدة من نوعها    عدد ساعات من النوم خطر على قلبك..دراسة تفجرها وتحذر..    كيف سيكون طقس اليوم الثلاثاء ؟    كأس العالم للأندية: الترجي الرياضي ينهزم أمام نادي فلامينغو البرازيلي    المندوبية الجهوية للتربية بمنوبةالمجلة الالكترونية «رواق»... تحتفي بالمتوّجين في الملتقيات الجهوية    الكوتش وليد زليلة يكتب .. طفلي لا يهدأ... هل هو مفرط الحركة أم عبقري صغير؟    يهم اختصاصات اللغات والرياضيات والكيمياء والفيزياء والفنون التشكيلية والتربية الموسيقية..لجنة من سلطنة عُمان في تونس لانتداب مُدرّسين    تونس تحتضن من 16 الى 18 جوان المنتدى الإقليمي لتنظيم الشراء في المجال الصحي بمشاركة خبراء وشركاء من شمال إفريقيا والمنطقة العربية    عاجل : عطلة رأس السنة الهجرية 2025 رسميًا للتونسيين (الموعد والتفاصيل)    القيروان: 2619 مترشحا ومترشحة يشرعون في اجتياز مناظرة "السيزيام" ب 15 مركزا    خبر سارّ: تراجع حرارة الطقس مع عودة الامطار في هذا الموعد    قافلة الصمود فعل رمزي أربك الاحتلال وكشف هشاشة الأنظمة    ملف الأسبوع .. أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس    طواف الوداع: وداعٌ مهيب للحجيج في ختام مناسك الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أزمة حركة «نداء تونس»: «أعراض» الديمقراطية، أم «نذر» نهاية أمر ما ؟
نشر في التونسية يوم 12 - 04 - 2016

هذه الدراسة للمحامي عبد الرزاق بلحاج مسعود، تمّت في أوج الأزمة التي عاشها «نداء تونس» الحزب الفائز بالانتخابات التشريعية الأخيرة ولكنها تلقي الضوء على ما يدور بالمشهد السياسي في البلاد والاحتمالات الواردة في المستقبل.إن فهم حقيقة ما يحدث داخل حزب «نداء تونس» مدخل ضروري لفهم الوضع السياسي الوطني ومآلاته المرتقبة. فالأزمة المعلنة داخل الحزب الأكبر في الإئتلاف الحاكم (قبل أزمته) هي الآن بصدد رسم ملامح مستقبل المشهد الحزبي، ومستقبل التوازنات السياسية التي تمخّضت عنها أوّل انتخابات تشريعية ورئاسية في تاريخ البلاد الحديث، ومستقبل مؤسسات الحكم الوليدة(رئاسة الدولة والحكومة والبرلمان)، والأهم من هذا كله مستقبل علاقة المجتمع بالدولة والديمقراطية الجديدة والسياسة عموما. العملية السياسية في تونس تسير بخطى متعثّرة وعملاقة في نفس الوقت. فبعد ثورة «نموذج» في السلمية والامتداد الشعبي والوطني(شملت كل طبقات المجتمع وجهات البلاد) ، نجحت البلاد في إنجاز دستور يؤطّر العملية الديمقراطية رغم عمق الانقسامات الاجتماعية والجهوية والايديولوجية ،ورغم حدّة التجاذبات السياسية بين مشاريع لها امتداداتها ورهاناتها الإقليمية والدولية. ونجحت في انجاز انتخابات تشريعية ورئاسية بعد إشرافها على هاوية الفوضى ودخول عامل «الارهاب» أو «العنف السياسي» كفاعل أساسي ورئيسي محليا واقليميا ودوليا. وفي هذا السياق التأسيسي الهشّ والملغوم ها هو «نداء تونس» يمرّ بتحوّلات حقيقية ستترك حتما آثارها على مستقبل السياسة في البلاد.
تونس الجديدة والهويات الحزبية الناشئة:
في الأنظمة السياسية الديمقراطية المستقرّة، الحزب السياسي «ضرورة» ديمقراطية بنيويّة، ولكنه في تونس اليوم يتجاوز ذلك ليصبح ضرورة «جوهريّة» تقتضيها اللعبة الديمقراطية كتقليد تنافسي انتخابي، وحاجة فردية للانتماء الى «جماعة» بغاية المشاركة السياسية الفاعلة في بناء هوية وطنية ترهّلت بفعل عقود طويلة من غياب السياسة.
في لحظة التأسيس الوطني «الثوري» يوشك الانتماء الحزبي «الصغير» أن يصبح نقيضا موضوعيّا للانتماء الوطني الجامع إن لم يصاحبه وعي عميق بشروط الممارسة الحزبية ضمن «السقف الوطني». لذلك مرّت تونس خلال مدة قصيرة جدّا من حالة «انفجار حزبي» بعد الثورة مباشرة (حتى بلغ عدد الاحزاب زهاء 200 حزب)الى وضع نفور شبه جماعي من الانتماء الحزبي، بما يهدّد العملية الديمقراطية برمّتها ، إذ لا ديمقراطية بلا أحزاب. وتونس الآن تجرّب إنتاج السياسة والديمقراطية والاحزاب، وتعيد صياغة شكل اجتماعها التاريخي بعد ثورة أذنت ببدء زوال قديم راسخ في القدم، وفتحت باب المستقبل أمام ممكن تاريخي لا أحد يملك تصوّر شكله النهائي. فالنظام السياسي الذي أقرّه الدستور الجديد يأخذ شكله الواقعي تدريجيّا، ويتشكل على ضوء حقائق الواقع العنيد ورواسب الممارسة السياسية القديمة من جهة، وعلى ضوء نصّ دستوري صيغ على وقع حلم ثوري جامح من جهة أخرى. لذلك نحن اليوم لا نعرف إن كنا أمام نظام رئاسي أم برلماني أم شبيه أحدهما أو كلاهما. ونحن نسوق هذه الملاحظة في سياق البرهنة على جدّة المشهد الدستوري ضمن المشهد السياسي العام «ما بعد الثوري» لنفهم جزء من التحوّلات الجارية داخل «نداء تونس» الذي يتوزع حضوره على كل مؤسسات الحكم الجديد. تشكّل حزب «نداء تونس» حول شخصية الباجي قائد السبسي الذي ترأس حكومة انتقالية بعد الثورة (من 27 جانفي حتى 24 ديسمبر 2011) . حكومة يعود لها الفضل (دون الخوض في تفاصيل المرحلة وتعقيداتها وأسرارها أيضا) في تنظيم انتخابات تأسيسية وضعت البلاد على طريق الديمقراطية والحداثة السياسية الحقيقية.
سلّم قائد السبسي رئاسة الحكومة لخلفه حمادي الجبالي ليكون له شرف تدشين آلية التداول السلمي على السلطة لأوّل مرة في تاريخ العالم العربي. مكّنه ذلك من الخروج من الحكم برصيد سياسي رمزي ومصداقية سياسية كبيرة مكنته من مقوّمات زعامة شعبية في فترة فراغ قيادي في البلاد وخلوّ الساحة السياسية من مرجعيّات رمزيّة اعتاد عليها المخيال العربي الاسلامي. وهذا الاستعداد الشخصي للقيادة لدى الباجي قائد السبسي وجد أمامه أرضية سياسية ملائمة جدا وفرتها نتائج الانتخابات التأسيسية التي أنتجت مشهدا سياسيا جديدا و«غريبا» وصادما للكثيرين. فازت «الحركة الاسلامية» بأغلبية كبيرة جعلتها القوة السياسية الأولى في بلد يعتبر في «الجغرافيا السياسية» معقلا للحداثة الفرنسية (حداثة منقوصة طبعا من مكوّنها الديمقراطي الذي كانت تعد به وتؤجله مع بورقيبة، لتنتهي الى تقرير عدم ملاءمته لطبيعة مجتمعنا ولثقافته مع بن علي).
الذين صدموا من المشهد الجديد في الداخل والخارج وجدوا في شخص الباجي قائد السبسي حامل لواء معركة إعادة التوازن بين القديم (مكاسب التحديث البورقيبي مختزلة في مكاسب المرأة أساسا) والقوى الجديدة التي مكّنتها الثورة من فرصة الخروج من ظلمات العمل السري الى مواقع قيادة الدولة.
هل كانت هناك ضرورة واقعية لنشأة حركة «نداء تونس»؟
يمكن اعتبار نشأة «نداء تونس» في سياق سياسي انتقالي (يبحث كل الفاعلين فيه عن هويتهم ويتلمسون بكثير من التجريب وكثير من احتمالات الخطإ) هو نتيجة موضوعية لفشل الأحزاب الجديدة التي صعّدتها الثورة في بلورة مشروع وطني جامع وانخراطها في حرب ايديولوجية تحت عنوان الصراع الاسلامي العلماني . في ذلك المناخ من الاحتراب الايديولوجي انحرفت الممارسة السياسية الى عنف مادي وانفلات اجتماعي . ورغم نجاح متأخّر للنخبة السياسية في ضبط سلوكها السياسي في حدود الجدل الفكري والسياسي السلمي وتوصّلها بعناء الى انجاز تسويات فكرية وسياسية تاريخية تمخّض عنها دستور توافقي متقدّم، رغم هذا النجاح وبالتوازي معه برز واستقرّ فاعل جديد في المشهد الوطني سيصبح محور ومدار العملية السياسية برمّتها. هذا الفاعل هو ما اصطلح عليه ب«الارهاب». ومنذ ماي 2011 تاريخ أول مواجهة بين الجيش الوطني والجماعات «الارهابية»، مرورا باغتيال رموز سياسيين سنة 2013 وصولا الى عمليتي باردو وسوسة اللتين استهدفتا سياحا أجانب، أصبح هذا الفاعل الجديد يرسم اتجاه العملية السياسية محليا واقليميا ودوليا ليصبح عنوانا سياسيا يختزل «عدوّا» مشتركا لا يختلف على خطورته اثنان، ولا يتفق على تحديد هويّته اثنان أيضا.
بعد انتخابات 2011، صدم فوز الاسلاميين قطاعات هامّة من النخبة السياسية والثقافية التقليدية. هذه النخبة التي لم تنفكّ تنظر الى الاسلاميين باعتبارهم قوة سياسية «طارئة» على بنية الاجتماع الثقافي «الحداثي». ثم ما لبثت أن حشدت كل إمكاناتها الاعلامية وكل أذرعتها الإيديولوجية لمواجهة هذا الوافد الجديد بما أشاع في البلاد مناخا من الاحتراب الايديولوجي، فتحوّلت بلاتوهات المحطات التلفزية والاذاعية الى ساحات حرب إيديولوجية تتحيّن فرصة التحوّل الى حرب حقيقية. ومع بروز «فاعل» جديد اسمه الارهاب يستهدف الجميع ويتقن التخفّي والمباغتة والمناورة، أصبح الجميع يتهم الجميع بالتورّط بشكل أو بآخر في المسؤولية عن ظهور وتفاقم هذا الوباء الذي كاد يقوّض العملية السياسية برمّتها. في هذا المناخ المعقّد نشأ مشروع حزب حركة «نداء تونس»، ليجمع تحت سقفه أطيافا متنوّعة من القوى السياسية. ونجح زعيمه للاعتبارات التي ذكرناها في تجميع جزء مهم من الدستوريين البورقيبيين ومن التجمعيين الباحثين عن خيمة تؤويهم من تداعيات “الثورة”، ومن النقابيين المتمرّسين بالسياسة ومن النخب الجامعية اليسارية، ومن أصحاب رؤوس الأموال الباحثين عن التكيّف مع الوضع الجديد.
ورغم كل ما سيقال عن ظروف نشأة حزب «نداء تونس»، سيظلّ جزء من الحقيقة التاريخية غائبا بحكم غرابة التركيبة أو «الخلطة» السياسية التي اجتمعت واتفقت وأطلقت مشروعا سياسيا تمكّن في ظرف زمني قياسي من تشكيل هياكل حزبية جهوية ومحلية ومن اعداد قائمات مرشحين تقدمت للانتخابات البرلمانية وفازت بأغلبية نسبية وصلت في بعض الجهات الى أغلبية ساحقة. وليس غريبا أمام هذا الصعود الكاسح أن يصرّ بعض المراقبين على أن هذا الحزب هو «استثمار» محلي واقليمي ودولي يحظى بدعم مالي وسياسي يجعل منه خيارا استراتيجيّا يتجاوز الرهانات الصغيرة لبعض قياداته التي لا تدرك حقيقة المشروع التي تنتمي إليه.
تجربة الحكم وثمن الغنيمة السياسية :
إثر فوز «نداء تونس» بالانتخابات التشريعية بفضل عوامل عديدة (من أهمها قوّة الآلة الانتخابية التجمعية ونجاح زعامة الباجي قائد السبسي في تجميع الفرقاء حول هدف واحد هو الاطاحة ب«النهضة» واقناع جزء هام من الشعب ب«التصويت المفيد»)، بعد هذا الفوز برزت دعوات محتشمة في صفوف «النداء» تدعو الى المراهنة على مرشح شاب لمنصب الرئاسة عوضا عن الباجي. ونتذكر أن قياديين من حزب النداء التحقوا بحملة مرشح رئاسي آخر قبل أن يعودوا الى مواقعهم الأولى كأنّ شيئا لم يكن. وهو ما يعني أن مصالح المستثمرين في الحزب يمكن أن تتناقض في لحظة ما دون ان يعني ذلك اضطرارهم الى التخلّي عن المشروع برمّته. وهو ما يحدث الآن تقريبا في صفوف الحزب.لقد فجّر انتقال زعيم الحزب ومؤسسه الى موقع رئاسة الدولة تناقضات عميقة داخل الحزب بين زعامات صاعدة طموحة تطمع في تبوّؤ مواقع مؤثرة في تسيير حزب حاكم ومرشح للبقاء في الحكم طويلا ان حافظ على وحدته في غياب منافسين كبار عدا حركة «النهضة». وحتى محاولة إخراج الصراع على أنه يدور حول “هويّة” المشروع السياسي للحزب، فهو لا يعدو ان يكون عنوانا خارجيا لصراع حقيقي حول مداخل السيطرة على المواقع القيادية وهياكل الحزب التي تمرّ عبر استمالة قاعدته الانتخابية ذات الأغلبية الدستورية التجمّعية . وهي المواقع التي ستحدّد طبيعة التحالفات السياسية القادمة بعد أن أصبح «التحالف» الاضطراري مع حركة «النهضة» موضوع خلاف معلن بين يساريي الحزب الذين يرونه تحالفا «ضدّ الطبيعة»، ودستورييه الذين يرونه مدخلا لإنهاء خصومة ايديولوجية مفتعلة مع التيار الاسلامي. ولكن هذا لا ينفي أن جزءا هامّا من جماهير «النهضة» و«النداء» ما زال ينظر بعين الريبة للتحالف «الغامض» بين الحزبين. فقد تمحور الخطاب الانتخابي ل«نداء تونس» حول الدفاع عن نمط عيش التونسيين ضدّ المشروع المجتمعي المحافظ و«الرجعي» لحركة «النهضة». وبعد أن كان التناقض مع حركة «النهضة» سببا مباشرا لنشأة حركة «نداء تونس»، ها هما الآن يمثّلان بالتقائهما «العسير» ضمانة استمرار العملية السياسية التوافقية التي انطلقت في 5 أكتوبر 2013 تاريخ انطلاق الحوار الوطني. وهذا الخيار التوافقي يتحمّس له داخل «نداء تونس» زعيمه القديم الباجي قائد السبسي الذي غادر الحزب وترك خلفه صفوفا من القيادات المتحفّزة للحكم . فقد غذّى الانتصار الانتخابي في صفوف الحزب رغبة الحكم. وتكثّف الطلب على المواقع وكان لا بدّ من تنظيم عملية «الانتشار» في مؤسسات الحكم. وفي ظلّ «ابتعاد» الزعيم المؤسس وفي غياب هياكل قيادية منتخبة، وفي ظلّ تكافؤ أحجام القيادات السياسية وتساويها في «السبق النضالي» وفي الجدارة القيادية، في ظلّ كل هذا كان الانتشار الندائي داخل مؤسسات الحكم يتمّ بأقدار كبيرة من النجاح بما يعطي الانطباع بأن الجهة المشرفة على تنظيم هذا الانتشار تملك وسائل فرض الانضباط «الحزبي»، رغم اضطرار كتلة الحزب البرلمانية في لحظة ما الى الضغط لافتكاك نصيبها في الوزارات.
الهجرة الجماعية لقيادات «نداء تونس» نحو مؤسسات السلطة التنفيذية أعطت انطباعا لقاعديّيه أن قيادته تتخلّى عن الحزب ولم تعد تحتاجه مرّة اخرى بعد أن صعدت به الى الحكم. فكيف يقبل امين عام الحزب بمنصب وزير خارجية في حكومة يرأسها مستقلّ ويشاركه فيها خصم سياسي يعلن خصومته الايديولوجية معه في كل مناسبة؟ وكيف يقبل قيادي آخر وزارة ليكتشف بعد 8 أشهر كاملة أنه يشغل منصبا شكليّا؟
خيار العودة الى الحزب : لماذا الآن؟
كان «نداء تونس» بالنسبة الى كثير من القوى استثمارا استراتيجيّا. ولم يكن الارتباك الذي حصل في صفوفه مع أوّل فوز انتخابي لينهي جميع أرصدة هذا الاستثمار. لذلك شهدنا عودة جماعية أيضا لصفوف الحزب بعد ان برزت مؤشرات نهاية ممكنة للحكومة الحالية ولشكل الحكم الحالي.أن يخرج محسن مرزوق من مؤسسة الرئاسة عائدا الى الحزب (قبل خروجه منه)، وأن يتخلّى رضا بلحاج عن التحفّظ الذي يتطلّبه موقعه الاستشاري في الرئاسة أيضا وينظّم اجتماع «جربة» محاولا فرض خيار حلّ المكتب السياسي وعقد مؤتمر الحزب في ديسمبر القادم، وأن يستدعي رئيس الدولة كبار قيادات الحزب الى قصر الجمهورية ليحاول تطويق الصراع المحتدم بينهم، وأن يزهد لزهر العكرمي في الوزارة مولّيا وجهه شطر البحيرة، أن يتمّ كل هذا في فترة وجيزة ، فممّا يؤكّد أن الرهان على الحزب ما زال قائما بقوّة، ولعلّه أقوى من الرهان على الحكومة الحالية. ومدار الصراع في صفوف «نداء تونس» اذن هو توقيت وطريقة عقد المؤتمر الاوّل للحزب الذي سيفرز قيادات تسيّر هياكله القيادية استعدادا لاستحقاقات انتخابية بلدية مصيرية باعتبارها ستؤسس للديمقراطية المحلية ذات الصلاحيات الواسعة بحكم الدستور الجديد، وانتخابات تشريعية ورئاسية ستتمّ في ظروف مغايرة عن الانتخابات السابقة سواء كانت في توقيتها العادي بعد اربع سنوات او مبكرة لسبب أو لآخر. وهذه العودة الجماعية لصفوف الحزب والتي أخذت شكل صراع معلن حول قيادة الحزب، ورغم تلويح بعض أطراف الصراع بإمكانية انقسام الحزب (وهو ما حدث) وحتى اندثاره (تصريحات بوجمعة الرميلي لجريدة المغرب 20 أكتوبر 2015)، تؤكّد ان ما يحدث في «نداء تونس» لا يعدو ان يكون أوجاع مخاض حزبي عسير في ظلّ ديمقراطية تبحث عن احزابها.
خاتمة:
قد يفيدنا التحليل الجزئي في فهم أدوار بعض الأسماء التي تتصدّر مشهد الصراع داخل حزب «نداء تونس»، ولكنه لا يجب أن يحجب عنّا جدّة الديمقراطية في بلادنا وافتقاد كلّ الأحزاب بلا استثناء لهويّة سياسية واضحة وجامعة. الهويّات الوطنيّة كلّها بصدد التحوّل. دول بكاملها وإقليم بصدد إعادة التشكّل. ونحن إذ نتابع ما يجري، فإننا ندرك عمق التحوّلات التي تجري في المشهد السياسي العامّ والمشهد الحزبي في تونس.. بعد ثورة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.