ليس هدفنا استعادة تفاصيل المظاهرة الضخمة لأول أمس السبت التي دعا إليها الاتحاد العام التونسي للشغل، والتي شابهت ضخامة حشودها تلك التي هرب المخلوع على إثرها في 14 جانفي 2011 ، ولا استطالة الحديث عن قدرة الاتحاد على التعبئة باعتبارها مسألة معروفة حين تدور «الماكينة» كلما تطلّب الوضع ذلك ، وليست الرسائل على أهميتها هي السؤال ، بل السؤال هو في طُرُقِ وصولها وقدرتها على تغيير المشهد الاجتماعي والحقوقي والسياسي بما يؤسس لصورة يتمنى التونسيون جميعا الوصول إليها وهي مجتمع تعددي يحتمل الاختلاف ضمن منظومة توافقية وقانونية واضحة دون قمع لأي طرف، اغلبية كان أو أقلية. فالشعارات التي رُفِعَت وإن تفرقت بين الاجتماعي والنقابي والسياسي فإنها عبرت عن خيبة أمل من أداء الحكومة وبالأساس مما قام به بعض أنصار «النهضة» من أفعال لا تمت إلى روح الثورة ولا أهدافها رغم تأكيد قيادييها على عدم الاعتراف إلاّ ببياناتها الرسمية، لكن المتضلعين في التكتيكات السياسية يدركون جيدا أنّ المواقف الرسمية لا تكفي لتشكيل الصورة كاملة باعتبار أنّ الأفعال هي المحدد لها لا العكس ! فهل وصلت رسالة اتحاد الشغل إلى الحزب الحاكم؟ فهل كانت هذه المظاهرة التي أسماها البعض « 14 جانفي الثانية» معبرة فقط عن موقف الاتحاد أم أن الاتحاد باعتباره حاضنا منذ نشأته لمختلف المدارس الفكرية والسياسية أراد تذكير الحكام الجدد بأنه كان المؤطر والدافع لثورة14 جانفي 2011، إذ كانت المظاهرات تنطلق من مقراته وتعود إليها حين يشتد قمعها؟ ويكفي هنا الاستدلال بمظاهرة صفاقس الشهيرة التي خرجت من الاتحاد الجهوي وتجاوز عددها المائة ألف متظاهر، كما أن المسيرة التي انتهت بهروب المخلوع انطلقت من مقر الاتحاد المركزي بالعاصمة. اللافت للنظر هو أن نفس الوجوه التي رأيناها في 14 جانفي 2011 كانت موجودة في مسيرة أول أمس. وجوه متحزبة، وأخرى حقوقية، وأغلبها يختلف في المواقف والانتماءات ان لم يصل إلى حد النقيض فما الذي جمعها؟ هذا السؤال يجب ان يطرح أمام السلطة الحالية . بمعنى أن الرسالة الأبرز هي أن محاولة التغوّل في المشهد السياسي وان كانت نتاج شرعية انتخابية ، لا تعني شرعية وضع اليد على كل مفاصل الدولة بما فيها من جمعيات ومكونات المجتمع المدني لان مفهوم الدولة لا يعني انتصار المجتمع بكامله لأطروحات الحزب الحاكم كما أن تدجين بقية المكونات لن يساعد على النقد وتنبيه السلطة لأخطائها وتلك أهم أسس الحكم الديمقراطي الذي يصلح أخطاءه من خطاب الآخرين دون أن يدخل في هوس التخوين أو استعمال القوة ويقبل أن يكون جزءا من هذا المجتمع المدني سواء كان في السلطة أو خارجها. ولعل الخطأ التكتيكي لحركة «النهضة» هو مساهمتها دون أن تدرك ذلك في تجميع كل القوى السياسية الصغيرة والكبيرة والمنظمات الحقوقية والفكرية والنقابية في مسيرة اتحاد الشغل بعد أن اقتنعوا أنها تجاوزت حدود ما سمحت به الانتخابات وهذا دليل لا على قوة الاتحاد في تجميع كل القوى الفكرية على اختلافها ونجاحه في إدارة صراعهم داخله في حدود المحافظة على ثوابته ومبادئه الجامعة فقط، بل على دوره الأساسي في الحياة السياسية دون أن يكون حزبا أو طالبا للسلطة ، وهي رسالة معناها ان استهداف المنظمة الشغيلة من السلطة مهما كان الحاكم لن تختلف نتائجه عن نتائج ازمات جانفي 1978 ونتائج «ثورة الخبز» عام 1984 . ثم إنّ توقيت استهداف الاتحاد لم يكن مدروسا ، إذْ كيف يمكن استهداف المنظمة الأولى في البلاد مباشرة بعد انتخاب أمين عام جديد لها؟ فالمعروف أن كل قائد جديد سيحاول إثبات مقدرته و «راديكاليته» في المواقف حتى يؤكد قدرته على السيطرة على زمام الأمور. وتقريبا هذا ما حدث ، فمن خطاب تأويلي عائم إلى بيان الهيئة الإدارية القوي دون تحديد المتهم ، إلى الوضوح الكامل في خطاب حسين العباسي . وخارج ثنائية اتحاد الشغل والسلطة الحالية، فان ملاحظة انضمام المواطنين العاديين لهذه المسيرة رغم عدم انتمائهم للاتحاد أو لحزب ما ، دليل على أنه الى جانب المسألة الاجتماعية، وإنْ كانت مركزية، فإنّ هاجس الحريات أيضا له أولوية هامة لدى المواطن العادي وهذا ما تمظهر في بعض آراء هؤلاء بقولهم لن نقبل بتلجيم لساننا . وتتأكد صحة هذا التأويل بالتواجد البارز للمثقفين من كل القطاعات الحقوقية والاعلامية والأدبية والموسيقية والمسرحية والنقدية وخصوصا كل أعضاء نقابة كتاب تونس ورابطة الكتاب الأحرار. ومن هنا، تتأتى النتائج الأولى لهذه المسيرة الضخمة، فخارج إطار حرص اتحاد الشغل على وضوح رسائله للحكومة، توجد أغلبية غير مسيَّسة قادرة على التحرك متى آمنت بشعارات تلبي طموحاتها ومطالبها . كما أن من النتائج الممكنة والتي يظهر ان السلطة لم تقرأ لها حسابا هو تحالف كل التيارات المعارضة والمدنية على اختلاف توجهاتها وإيديولوجياتها في جبهات سياسية واسعة يمكن ان تغير موازين القوى خاصة والبلاد على ابواب استحقاقات انتخابية جديدة. كل هذا الحراك يثبت أن «الشعبوية» لا يمكن أن تصبح هي المبدأ وأساس العمل السياسي لأن نتائجها العاجلة على ايجابياتها لا تدوم. فهل نترقب مبادرة من الطرفيْن لتلطيف الأجواء خاصة وأن اتحاد الشغل عبر عن استعداده للتفاعل مع كل ما يؤدي إلى قرارات أساسها مصلحة البلاد؟ مع احتفاظه بحقه في تحريك «الماكينة» متى تعطلت لغة الحوار أو وقع استهدافه؟. تبدو هذه «الأمنية» الشعبية بعيدة المنال خاصة بعد تصريحات رئيس الوزراء في راديو موزاييك المشككة في الواقفين وراء مسيرة الاتحاد ، بما قد ينبئ بتواصل هذا الاحتقان ،ويبدو أنّ الشخصيات الوطنية التي تحظى بمصداقية لدى الطرفين قد حان لها ان تتدخل لإعادة الثقة بين الطرفين حتى لا تصل الأمور إلى تصعيد مفتوح قد يأتي على الأخضر واليابس ويجهض التجربة التونسية بعد الثورة قبل اكتمال أسسها.