*بقلم :رشيد خشانة(إعلامي تونسي بشبكة الجزيرة) احتدم الجدل مُجددا بين باريس والجزائر في الذكرى الخمسين لمفاوضات السلام الجزائرية الفرنسية في منتجع إيفيان السويسري والتي توجت باستقلال الجزائر عن فرنسا في الخامس من جويلية 1962. وحلت يوم الاثنين الماضي ذكرى المفاوضات التي انتهت بتوقيع الاتفاق التاريخي بين وفد من الحكومة الجزائرية المؤقتة وآخر من الحكومة الفرنسية قبل خمسين عاما من اليوم. وفيما اتهم الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي المجاهدين الجزائريين بارتكاب جرائم أثناء حرب التحرير، رد عليه وزير الداخلية دحو ولد قابلية موضحا أن "المجاهدين الجزائريين لم يرتكبوا جرائم بالمعنى الذي يتصوره الرئيس الفرنسي''، وأكد باعتباره مجاهدا سابقا أن ''العنف الأكبر خلال حرب التحرير جاء من الطرف الاستعماري''، موضحا أن ''ما قام به المجاهدون يعتبر رد فعل ولهم كل الشرعية في ذلك". ورفض الرئيس الفرنسي طلب الصفح من الجزائريين عن الأعمال الوحشية التي ارتكبها الجيش الفرنسي في الجزائر طيلة حرب التحرير التي استمرت ثمانية أعوام، واعتُبر ذلك الرفض مغازلة لأقصى اليمين الفرنسي الذي يتمتع بوزن مهم في الانتخابات الرئاسية المقبلة. وقال ساركوزي إن فرنسا ''لا يمكن أن تعتذر عن قيامها بحرب الجزائر التي شهدت تجاوزات وأعمالا وحشية''، زاعما في حوار مع صحيفة ''نيس ماتان'' أن الطرفين (مجاهدو جبهة التحرير الوطني والجيش الفرنسي) ''ارتكبوا تجاوزات وأعمالا وحشية''. لكن وزير الداخلية الجزائري شدد على أن الفرنسيين كانوا يقولون إنهم ''متحضرون وجاؤوا لينشروا الحضارة وسط هذا الشعب، ولكن خلال الحرب جاء العنف الأكبر منهم''. لقاءات سرية ولعب الصحافي السويسري شارل هنري فافرو الذي زار الجزائر لأول مرة في عام 1952 دورا أساسيا في جمع قادة الثورة ومسئولين رسميين فرنسيين على مائدة المفاوضات، بعد ثمانية أعوان من اندلاع شارة الحرب التحريرية في الأول من نوفمبر 1954. وتنظر الأوساط السويسرية للدور الذي لعبته سويسرا في مفاوضات إيفيان باعتباره من "أهم الوساطات التي أدت إلى اتفاق هام على المستوى العالمي". وروى شارل هنري فافرو الذي كان يشتغل في صحيفة "لاغازيت دو لوزان" أن أول لقاء بين الجانب الفرنسي وممثلي الثورة الجزائرية كان مبرمجا في روما بمناسبة تشييع جنازة البابا، وكان من المفروض أن يتقابل خلاله الفرنسي إيدمون ميشلي مع رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة فرحات عباس، لكن عدم مجيء ميشلي إلى روما حال دون ذلك. وكانت المحاولة الثانية مع الوزير أحمد فرانسيس الذي لم يكن من كبار المسؤولين في الحكومة الجزائرية المؤقتة، لكنه كان محل ثقة فرحات عباس. غير أن شارل هنري فافرو اعتبر في مقابلة معه أن الاتصالات الجادة بدأت مع سعد دحلب، الذي قاد الوفد المفاوض الجزائري المؤلف من علي بومنجل ومحمد الصديق بن يحيى، وتم اللقاء الأول بناء على قناعة الرئيس الفرنسي الجنرال شارل ديغول بأن وقت سلام الشجعان حان. ثم استمر المسار التفاوضي سرا مع بيار راسين مدير مكتب رئيس الوزراء ميشال دوبري الذي كان يؤمن بأن المفاوضات ليست فقط ضرورية، والذي وقع على أول وثيقة منح بموجبها كل صلاحيات التفاوض لكلود شايي، الذي كان يدير القسم القانوني في البعثة الفرنسية لدى الأممالمتحدة في نيويورك، والذي كان مجيئه إلى جنيف لا يُلفت الانتباه. وفي هذا السياق عمل شارل هنري فافرو على تنظيم لقاءين بين كلود شايي عن الجانب الفرنسي وسعد دحلب عن الجانب الجزائري في نزل إنكلترا في جنيف بداية فيفري 1961. فشل المحاولة الأولى على رغم تلك الاحتياطات باءت المحاولة الأولى لترتيب مفاوضات بين الجانبين الجزائري والفرنسي بالفشل بسبب عنصرين: أولهما أن أعضاء الوفد الجزائري اختلفوا حول الإستراتيجية التي يجب إتباعها: هل هي السرية التامة أم المفاوضات العلنية؟ وكان سعد دحلب يرغب في أن تظل المفاوضات سرية، بينما كان الطيب بوالحروف يريد أن ترافق بأكبر قدر من الترويج في الإعلام. والثاني أن الخارجية السويسرية، التي قبلت القيام بدور الوساطة اعتبارا من نهاية فيفري 1961، ارتكبت خطأ إصدار بيان أعلنت فيه "قبول وضع مساعيها الحميدة تحت تصرف الطرفين". وكانت النتيجة بحسب فافرو أن "مفاوضات إيفيان الأولى التي بدأت بصخب إعلامي، دُفنت بمجرد ولادتها وأنه تم الشروع في محاولة إعادة ربط الاتصالات بشكل سري بين كلود شايي وسعد دحلب من جديد ابتداء من بداية صيف عام 1961. وانطلقت فعلا الجولة الثانية من مفاوضات إيفيان في صيف ذلك العام على أسس صحيحة أي في سرية تامة، ولعبت فيها الدبلوماسية السويسرية دورا حيويا لكي تتوصل في 18 مارس 1962 إلى إبرام الوثيقة المعروفة ب "اتفاقات إيفيان". واعتبر شارل هنري فافرو، أن التدخل السويسري في مفاوضات إيفيان كان أيضا لمحو خطإ جسيم، وهو تورط النائب العام السويسري في تسليم نتائج التصنت على السفارة المصرية في العاصمة السويسرية برن إلى السلطات الفرنسية، ومن خلالها إلى جهاز المخابرات الفرنسية عام 1957. وكانت السفارة المصرية في برن من بين نقاط التنسيق الهامة للثورة الجزائرية، وقد انتهت هذه القضية بانتحار النائب العام السويسري بعد نشر مقال عن الموضوع في جريدة لاتريبون دي جنيف. واستفادت الثورة الجزائرية من تلك الحادثة إذ تحولت سويسرا إلى ملاذ آمن لعدد من قادتها الذين فروا من السجون الفرنسية، وكذلك لداعمي الثورة الجزائرية الذين كانوا يمررون الأموال التي كانت تجمعها شبكات الدعم للثورة في فرنسا. وبالإضافة إلى ذلك وضعت سويسرا ترابها تحت تصرف الوفد الجزائري المفاوض أثناء مفاوضات ايفيان وتم استقباله طوال مرحلة المفاوضات السرية الثانية، وأثناء المفاوضات النهائية في مدينة إيفيان، إذ كان يقيم فوق التراب السويسري ويتم نقله جوا إلى تلك المدينة الفرنسية للمشاركة في المفاوضات. وانتهت جولات التفاوض بتوقيع الإتفاق التاريخي بين الطرفين قبل خمسين عاما أي في 18 مارس 1962.