خلال التحركات التي عرفتها الشعوب العربية على اختلاف التسميات بين المنتصر لتعريف الثورات و المؤكد على كونها انتفاضات و بين القائل بأنها انقلابات مدروسة بخطط محكمة و مسبقة الوضع سواء بتحضير داخلي أو بتحريض خارجي على اختلاف الأجندات و تلونها وبعيدا عن هذا و ذاك كانت هذه التحركات قادحا مهما و حيويا في إفراز أشكال تعبيرية فريدة تأرجحت بين الموسيقى و الشعر و الكوميديا السوداء من خلال السخرية من الساسة القدماء منهم و الجدد و هنا تجدر الإشارة الى أن الظاهرة التعبيراتية كان شديدة الالتصاق بالأوضاع السياسية و بالانتصار للقضايا الإنسانية العادلة حيث سيشهد التاريخ أن ديكتاتورا حكم دولة الشيلي يدعي " أوغستو بينوشيه " و أن فنانا اسمه "فيكتور قارا " كرس حياته لقمع هذه الديكتاتورية فكانت أغانيه شديدة الالتصاق بالناس و همومهم البسيطة حاملة لأحلام الديمقراطية و العيش الكريم طمعا في غد لم ير نوره " فيكتور قارا " حيث خرب جسده من قبل " مليشيات " " بينوشيه " ليذوي شمعة أخرى على درب الفجر و إن كان هذا قد وقع سنة 1973 فإن التاريخ نفسه لا يضع تاريخا محددا لعصا الجلاد و لا يحدد لها لونا حيث انطلق صوت الفتى النحيل " ابراهيم قاشوش " مدويا من حمص مسقطا أول حصاة من العرين فوق رأس الأسد حيث رددت الجماهير خلفه أهزوجة " يلا ارحل يا بشار ........... يلا ارحل يا بشار" : يلا ارحل يا بشار ........... يلا ارحل يا بشار ويابشار مانك منا خود ماهر وارحل عنا وشرعيتك سقطت عنا ويلا ارحل يا بشار ......... ويلا ارحل يا بشار *********** يا بشار ويا كذاب تضرب أنت وها لخطاب الحرية صارت على الباب ويلا ارحل يا بشار ......... ويلا ارحل يا بشار هذا اضافة الى أهزوجة " بس اسمعوني " التي يظهر فيها " بشار الأسد " بصدد تقديم كل التنازلات الممكنة و الغير ممكنة في شكل كاريكاتوري ساخر طالبا أن يسمعه الشعب لكن الجماهير تردد بعد كل تنازل العبارة الشهيرة " ارحل .. ارحل " لكل واحد في سيارة .. كذاب و اذا بدكم في طيارة .. بس اسمعوني .. إرحل مشان الله.. آخر مرة.. بس اسمعوني .. ارحل و مثلما أشرنا فإن الجلاد الذي سحل " فيكتور قارا " في ملعب كرة قدم هو نفسه الذي اعترض " القاشوش " ولم يكفه إزهاق روحه بل انتزع منه حنجرته انتزاعا دمويا فاجرا لا ينم إلا عن تشف و عن غياب تام لمفهوم الإنسانية بل عن غياب تام لكل مفهوم لتكون تلك رسالة تحذير لأي صوت يرتفع في مرحلة موالية و إن كان من المسلمات أن دم " القاشوش " لن يضيع هباء فإن رسام الكاريكاتير السوري أيضا " على فرزات " و الذي يعد واحدا من أبرز خمسة رسامي الكاريكاتير في العالم اختار أن يجسد هذا الاغتيال بلوحة معبرة يتحول فيها الدم الى موسيقى لحظة الالتحام بالأرض في نشدان للخلود و في رسالة واضحة و غير مشفرة مفاداها خلود الفن مهما كان شكله و كنس الريح لكل الكراسي و المناصب العرضية و لم تكن هذه اللوحة الأولى في هذا السياق" لفرزات" لكنها كانت الدافع الأكبر لعودة العصى لسالف نشاطها لتسلط هذه المرة على" فرزات " و قد يرى البعض أنها كانت أقل فتكا لأنها لم تكن قاتلة لكنها في الحقيقة كانت أشد بطشا من القتل حيث عمد المعتدون الى كسر يدي الرجل و تهشيمهما بالكامل دائما في سياق الرسائل الموجهة حيث أن " فرزات " الفنان الذي نعرف يتنفس في الحياة من خلال فنه و كسر يديه هو مصادرة لإمكانية الرسم بما هو في نفس الوقت و كنتيجة مصادرة لحياته القائمة على فنه و تمتد هذه السلسلة السحرية من التكامل الفني المدهش حتى تكاد تلامس عنان السماء لتغيب في القلوب فجرا مؤجلا الى حين فقد أرسل" عبد الرحمان الأبنودي " أو " الخال " قصيدة نعي يبشر فيها بولادة الفجر : الفجر نبضُه معاكس التيار بيلف.. ويدوَّر على شطآنُ بيمرّ بين دم الشهيد.. والنار فاصبر يا صاحبى لكل فجر أدانه. ■ ■ ■ إحنا سكوت صوتنا يسكِّت أُمّه إحنا ولادها والضّمير الحى. الرسمه لك.. وإحنا لينا الكلمه نُرش ليلها.. ولو بحفنْة ضىّ! ■ ■ ■ ياللى انت ريشتك كارهه ريحة الموت ورسمتك تسعدنا.. وبتئذيك ريشه عجيبه.. ليها رأى.. وصوت ناجى العلى» نِسى سرّ ريشته فيك ومثلما أسلفنا فإن تواصل وجود القهر و الظلم في هذا العالم كان و سيكون دائما بمثابة " مانيفاستو وجود " للفنانين و المبدعين المنتصرين للحق دون سواه و الحاملين لواء الدفاع عن هموم الفقراء و الأقليات المضطهدة في معادلة غير متكافئة دائما مع السلطة مثلما يرى ذلك " ادوارد سعيد" حيث "يجب أن يكون المثقف مصدر تعكير لصفو للسلطة " بما يحتمل هذا القول من قراءات حيث يخلق هذا التعكير الواعي و الممنهج باعتبار مصدره شكلا من أشكال الرقابة الخارجية و الذاتية للسلطة على وظائفها بالرجوع الى النقد في صورة الانحراف أو بتجنب الوقوع في المحظور باعتبار الرؤية التي يقدمها المثقف في قراءته لما كان و خصوصا لما سيكون كنتيجة محتملة و ستبقى هذه العلاقة قائمة بين صاحب الكلمة الحرة و صاحب سلطة الردع و ستستمر محاولات الإخماد ما توفرت النار و ما توفرت أسباب وجودها كما سيكون للجلادين دائما دافع لإغماد عصاهم في عجلة الفجر قصد تأجيل ظهوره أو حتى مجرد تأخيره. و هنا ينشد " فيكتور قارا " : لا أغني لأنني أعشق الغناء ، ولا لكي أتباهى بصوتي، فإنني أغنّي لأنّ قيثارتي مرهفة الحس والشعور و الإدراك. قيثارتي لها قلب أرضي ، وأجنحة حمام، وإنها مقدسة مثل الماء ، تعمّد الأفراح والأحزان. وتقول فيولتا بارا إن أغانيّ تعرف غاياتها ، وإن قيثارتي شديدة الفعالية في عطور الربيع. ليست قيثارتي للأثرياء، لا تتساوم مع تواطؤاتهم