قرار السيد حمادي الجبالي رئيس الحكومة اللجوء إلى المجلس الوطني التأسيسي في محاولة لحسم موضوع التحوير الوزاري، يعتبر إعلان فشل صريح للمشاورات التي جرت داخل «الترويكا»، بين هذه الأخيرة وبعض الأحزاب السياسية. وبهذا القرار تكون الساحة السياسية قد انتقلت من منطق البحث عن الوفاق والتفاهمات، إلى لغة موازين القوى وعدد الأصوات. وهو ما يشكل منعرجا جديدا ستكون له بالتأكيد تداعيات عديدة، وذلك ما لم تحصل اتفاقات في اللحظات الأخيرة قبل الوصول إلى قبة المجلس الوطني التأسيسي. في كل الأحوال وبالنظر إلى « سوابق « المجلس الوطني التأسيسي في معالجة الملفات التي نظر فيها إلى حد الآن، فإن إعلان عرض التغييرات المنتظرة على التشكيلة الحكومية على أنظار هذا المجلس للحسم فيها، لا يحمل أي ضمان لتجاوز هذه العقبة بنجاح... بل إن ذلك قد يمثل عنوانا لمرحلة جديدة ليست أقل متاعب من التي سبقتها. حكومة رهينة للأحزاب ما جرى حتى اليوم بخصوص التحوير الوزاري يحمل معاني عديدة. أولها أن «الترويكا» مهددة حقا بالانهيار، وذلك بسبب الخلافات التي أصبحت تشقها ، وخاصة عدم قدرتها على تطويق هذه الخلافات، في ظل تمسك مختلف أطرافها بمبدإ المحاصصة، الحزبية، رغم محاولات تغليف هذه الخلافات بعناوين أخرى عديدة. المعنى الآخر لما يجري هذه الأيام يعكس مدى حجم المتاعب التي تواجهها الحكومة، التي تحولت إلى رهينة لدى الأحزاب التي تتكون منها. متاعب وجد رئيس الحكومة نفسه إزاءها غير قادر على إجراء تحوير وزاري أجمع الكل على ضرورته، ويجري الحديث بشأنه منذ أشهر.. بل إن هذا التحوير الذي رأى فيه البعض حلا، تحول إلى مشكل عويص لهذه الحكومة. مما أثر على المناخ السياسي العام بالبلاد. كما أثر على أداء الحكومة نفسها ، خاصة مع تواتر الحديث عن وزراء سيرحلون، وآخرين أعلنوا بأنفسهم عن تسمياتهم، وعن الحقائب التي سيشغلونها، في سابقة هي الأولى من نوعها... فكيف يكمن لمصالح وزارة ما أن تسير بشكل عادي وكل العاملين فيها يعرفون أن وزيرهم على قائمة المغادرين ؟ غموض وبعيدا عن الماضي «المخيب» للمجلس الوطني التأسيسي في تناوله لأكثر من ملف واحد، وفشله في إيجاد الحل المناسب له، فإن ما قد يزيد في تعقيد الأمر، أن الصيغة التي ستتم بها علمية عرض التحوير الوزاري على المجلس، ليست واضحة تماما أمام أغلبية التونسيين، وحتى أمام بعض النواب أنفسهم. فقد جرت العادة أن تصوت المجالس النيابية بعد تشكيل حكومات جديدة لتعطيها الثقة أو لتحجبها عنها. وهذا الأمر لا ينطبق على واقع الحال. فعلى أي أساس ستتم عملية التصويت أو المصادقة على التركيبة الحكومية الجديدة؟ وهل سيناقش النواب برنامجا أو توجهات جديدة لهذه التشكيلة ؟ أم أنهم سيكتفون بتزكية الأشخاص الذين اختارهم رئيس الحكومة للالتحاق بتشكيلته ؟ وعلى أي أساس سيفعلون ذلك؟ خاصة إذا ما تضمنت القائمة – وهذا متوقع - مرشحين لا يعرف عنهم ولا عن سيرهم الذاتية المهنية الشيء الكثير. حوار الصم إن ما تعيشه بلادنا اليوم، وضع غير عادي بالمرة. وهو عبارة عن تواصل لحوار الصم الذي بات السمة الرئيسية الطاغية على الساحة السياسية ... فالكل يؤكد أن الحوار ضروري وحتمي ...ولكن لا أحد يستمع لما يقوله الآخرون دون خلفيات أو أفكار مسبقة.. حتى أننا أصبحنا نشك إن كان هذا التعبير عن الاستعداد للحوار ينبني على قناعة حقيقية للبحث عن حلول للوضع السياسي المتأزم الذي تمر به البلاد، والمخاطر التي تتهددها، أم أنه مجرد فرقعة إعلامية، ومحاولة لربح شيء من الوقت إلى حين تمر العاصفة. النتيجة الحاصلة إزاء هذا الوضع هو أن الرأي العام الوطني بدأ يشك في الاستعداد الجدي للحوار من مختلف كل الأطراف كسبيل لتجاوز هذه المشاكل التي تعرفها الساحة السياسية، والتي تؤثر على الوضع الاقتصادي والاجتماعي العام بالبلاد، والحال أن هذه الفترة الانتقالية تتطلب الابتعاد أقصى ما يمكن عن التجاذب والبحث عن أرضية التقاء تجنب البلاد الهزات، إلى حين إجراء الانتخابات المقبلة، رغم أن العديد من المراقبين يرون أن أصل المشكل هو هذه الانتخابات المرتقبة ، ويعتقدون أنها جوهر كل المعارك الدائرة الآن، وأن كل ما يجري هذه الأيام ليس إلا حربا للتموقع من أجل ضمان شروط كسبها. آخر امتحان للنخب السياسية يدرك التونسيون اليوم تمام الإدراك بان أحوالهم لن تتحسن بمجرد القيام بالتحوير الوزاري الموعود .. ولكنهم يتمنون رغم كل شيء، أن يروا نخبهم السياسية تغلب المصلحة الوطنية على المصالح الظرفية والحزبية الضيقة. لأن نجاح هذه النخب في تجاوز هذا الإشكال القائم منذ أشهر، هو امتحان جدي لصدق نوايا هذه النخب. امتحان قد يمثل النجاح فيه بصيص أمل في المستقبل، وعنوان لعودة الرشد لهؤلاء السياسيين الذين ما فتئوا يبتعدون عن نبض الشارع وعن مشاكل الناس الحقيقية، بانخراطهم في معارك سياسية هامشية، بدأ أغلب الشعب يضيق بها ذرعا، لأنها تجري على حساب أولويات أخرى قامت من اجلها ثورة 14 جانفي 2011. أولويات بدأت تضيع في زحام المصالح الحزبية والحسابات الانتخابية.