- واشنطن – محمّد بوغلاّب بعد سفرة مضنية بتأخير العادة من الخطوط التونسية وإجراءات بالغة التعقيد لمن كانت وجهته أمريكية في مطار فرنكفورت الألماني، وصلنا الى مطار واشنطن DC الدولي عشية السبت الماضي... كنّا في غاية الإرهاق بسبب فارق التوقيت الذي يناهز الثماني ساعات ، خففه عنا تعليق زميلنا الفلسطيني « إحمد ربك فقد ربحت يوما في حياتك» ... ضحك بعضنا وإبتسم البعض الأخر وإن كنا جميعا ندرك ان اليوم الذي يمرّ في بلداننا العربية افضل من الذي يأتي بعده ... كنا كتيبة من الصحافيين ضاقت بهم في ما يبدو بلدانهم جاؤوا من العراق والأردن وأراضي السلطة الفلسطينية والكويت ولبنان وموريتانيا والمغرب والعربية السعودية والسودان واليمن ، وكنت الصحفي التونسي الوحيد ضمن هذه الدفعة في برنامج قيادة الزائر الدولي الذي ينظمه معهد التعليم الدولي برعاية وزارة الخارجية الأمريكية . ويهدف هذا البرنامج كما خطط له الأمريكان منذ سنة 1940 إلى بناء تفاهم متبادل بين الولاياتالمتحدةالأمريكية والدول الأخرى، وفي كل سنة تختار السفارات الأمريكية من جميع انحاء العالم عددا يزيد عن 4500 مشاركا يمثلون قطاعات مختلفة حكومات ووسائل إعلام وتربية ومنظمات غير حكومية وفنون وصحة ... وقد شارك اكثر من 320 رئيس حكومة ودولة حاليين وسابقين وكثيرون غيرهم من قادة العالم البارزين في القطاعين العام والخاص في برنامج قيادة الزائر الدولي من بينهم توني بلير رئيس الوزراء البريطاني طيلة عشر سنوات ومحمد يونس مؤسس بنك غرامين الحائز على جائزة نوبل للسلام ومطربة الأوبرا العالمية رينيه فليمنغ .. وعنوان هذه الدورة هو «الصحافة والسياسة الخارجية الأمريكية». وقد إنطلق البرنامج في العاصمة واشنطن DC -وتضاف دي سي لتمييز العاصمة عن ولاية واشنطن، ويرمز حرف D لكلمة مقاطعة و C لكولمبيا ، ومن المعلوم ان واشنطن العاصمة ليست ولاية ولا تحتسب ضمن الولايات الخمسين لأمريكا ولذلك يدوّن على سيارات سكان العاصمة «نحن ندفع الضرائب دون ان يكون لنا تمثيل» «taxation without representation» ذلك ان واشنطن العاصمة غير ممثلة في الكونغرس الذي يجمع ممثلي الشعب وممثلي الولايات الخمسين فيما تملك العاصمة ثلاثة اصوات في المجمع الإنتخابي – عدد الأصوات هو 538 وهي التي تمنح الفوز أو الخسارة لأي مرشح وليس أصوات الناخبين في إنتخابات الرئاسة الأمريكية، فالفائز هو الذي يفوز بأصوات الولايات لا بأصوات الناخبين وستتواصل رحلتنا نحو نيويورك التي سنتحول إليها بالحافلة قبل السفر جوا إلى فلوريدا ... وواشنطن مدينة أمريكية هادئة تحتفظ بطراز معماري روماني ولا يمكن لأية بناية ان ترتفع أعلى من الكابيتول حيث الكونغرس الأمريكي ، ويفاجأ الصحفي العربي مثلي بتواضع مبنى البيت الأبيض مقارنة بما عرفت من وسمعت عن قصور الحكام العرب بدءا بقصر قرطاج ... صباح اول امس كانت بداية البرنامج الرسمي بكلمة السيد نيكولاس كلينجر مسؤول برامج فرع الشرق الأدنى وشمال إفريقيا بوزارة الخارجية الأمريكية بحضور كل من بافل توجسل كبير مديري البرامج بمعهد التعليم الدولي وجنيفر أصيلي مساعدة برامج بذات المعهد وهي فلسطينية الجذور من مدينة عكا ... حين طلب منا أن نتحدث عن أنفسنا، وكنت ثاني المتحدثين وجدت نفسي ألقي جانبا بما أعددت من كلمات المجاملة والتنويه بحسن الضيافة ... قلت إني من تونس التي هوجمت فيها سفارتكم يوم 14 سبتمبر 2012 ... شعرت بأن الوجوه أو بعضها قد إنقبضت ...صمتّ قليلا وأضفت «أنا من تونس التي أبرمتم معها إتفاقية صداقة سنة 1799 ، وأنا من تونس التي بعثتم فيها اول قنصلية امريكية في 20 جانفي 1800 وانا من تونس التي بعثت بأول سفير لها لديكم سنة 1865 ، وأنا من تونس التي لا تنسى لكم بأن بلدكم كان أول قوة عظمى تعترف بإستقلالها في 7ماي 1956 وتونس هي اول دولة عربية طلبت وإستضافت متطوعين من فيلق السلام ...أنا من تونس التي إستقبل كيندي رئيسها بورقيبة عند مدرج الطائرة تقديرا وتبجيلا وأنا من تونس التي إمتنعت أمريكا لأول مرة عن إستخدام الفيتو في قرار يدين إسرائيل بعد حادثة حمام الشط سنة 1985 بعد أن هدد بورقيبة بسحب السفير التونسي في صورة مساندتكم لإسرائيل». وختمت تدخلي بأني من تونس التي حرر حكامها من البايات الحسينيين العبيد سنة 1842 أي قبل أمريكا نفسها بأكثر من عشرين عاما... بطبيعة الحال تحدثت عن عملي بالإذاعة التونسية منذ سنة 1995 وتنقلي في مواقع مختلفة بسبب ودونه وبرغبة مني أو دونها من إذاعة الشباب إلى وحدة الإتصال ورئاسة تحرير مجلة الراديو فوحدة الإنتاج الدرامي والموسيقي فوحدة الإنتاج بالإذاعة الوطنية فتجميدي لسنة ونصف افتك خلالها ارشيفي الشخصي لأكثر من 15 سنة من العمل الإذاعي والتلفزي ومحاصرتي إداريا ومعنويا حتى رفع الحظر عني بعد الثورة بشكل تدريجي وتعييني قبل نصف شهر رئيسا لتحرير مجلة «الإذاعة»... كما حدثتهم عن جريدة «التونسية» التي كتبت في نسختها الإلكترونية وعشت مخاض ولادة طبعتها الورقية وشاركت بما إستطعت في وضعها على السكة رفقة اصدقاء لي بكثير من الطموح والمحبة في تحدّ له ميزاته في المشهد الإعلامي التونسي ... إنتهت الفترة الصباحية بغداء نظمته لنا وزارة الخارجية الأمريكية في مطعم «النادلون والشعراء» الذي يملكه رجل الأعمال والفنان التشكيلي العراقي «اندي شلال»... وبالمناسبة فإن عددا من أهم البنايات بالعاصمة الأمريكية التي تسكنها غالبية طفيفة من السود يملكها مستثمرون عرب من منطقة الخليج وإيرانيون وأفغان ... أما الجلسة المسائية فإنطلقت بمحاضرة الدكتور ستيفن فارنسوورث أستاذ العلوم السياسية والخبير في الإعلام العام وهو مؤلف مشارك في اربعة كتب وقد عمل صحافيا لعشر سنوات. تحدث المحاضر عن العلاقة بين الإعلام والحكومة الأمريكية ووصفها بأنها علاقة معرفية وسياسية لأن ما ينطق به السياسي يقولب الخبر وضرب مثلا على ذلك إحتكار الحكومة الأمريكية للمعلومة في أحداث 11 سبتمبر 2001 وأضاف إن الصحافة مازالت تحت رحمة مصدر الخبر ولذلك «تظل حرية الصحافة هدفا نسعى لتحقيقه كما ان عدم الإستقرار الإقتصادي والسياسي يؤذيان الإعلام من حيث حريته فالإعلام الأمريكي يتضامن عند الأزمات مع حكومته وبزوال الأزمة تتغير النبرة نحو النقد» . وقال المتدخل انه رغم توزيع السلط في الولاياتالمتحدةالأمريكية بين الرئيس والكونغرس فإن رئيس الدولة يستأثر بأكبر قدر من التغطية التلفزية ، وشدد المتدخل على أن النظام السياسي الأمريكي صمم بطريقة يستحيل معها أن يستأثر أحد بالحكم قائلا «كان مؤسسو الولاياتالمتحدة يعرفون ما يريدون، لم يكونوا يرغبون في تاج يحتكر كل السلطات» وبين كيف انّ الكونغرس من جهة والقضاء بشكل خاص يكبحان جماح الرئيس . وقدم المحاضر فصولا من كتاب له قيد النشر بعنوان «الرئيس الشامل» كشف من خلالها ان الإعلام الأمريكي لا يهتم عموما سوى بالشؤون الداخلية وإن إهتم بشأن خارجي فلتعلّقه بأمريكا وخاصة متى كان هناك جنود أمريكيون في منطقة من مناطق العالم، هنا سألت المحاضر «هل على بلداننا أن تكون محتلة من قبلكم حتى يهتم إعلامكم بنا؟ أو علينا أن نرسل من يفجر أبراجكم لتنتبهوا إلينا؟ ألم تسألوا أنفسكم قبل عشر سنوات لماذا يكرهوننا؟ عليكم إذن أن تعرفونا لتدركوا الإجابة»، وخلص المحاضر إلى أن العالم يهتم بأمريكا أكثر من إهتمامها هي بالعالم. وكشف الدكتور ستيفن فارنسوورث عن نتائج دراسات إحصائية كشفت أن وسائل الإعلام العربية هي الأكثر إيجابية في الحديث عن الولاياتالمتحدةالأمريكية في السنة الأولى من حكم بوش في مدته الثانية 2005 وكذلك في السنة الأولى من إنتخاب أوباما. مفاجأة ثانية هي أن قناة «الجزيرة» أكثر القنوات إيجابية في الحديث عن الرئيسين بوش الإبن وأوباما مقارنة حتى بقناة «العربية»! المفاجأة الثالثة مصدرها تونس فقد بين إستطلاع أجراه معهد «بيو» أن نسبة 28 بالمائة من التونسيين يثقون في قرارات الرئيس أوباما في السياسة الخارجية فيما بلغت هذه النسبة عند الأمريكيين أكثر من ستين بالمائة ، وهو ما يكشف الفرق بين نبرة الإعلام ونبرة الشارع. وأكد المحاضر أنه لا يطمئن إلى القول بقدرة وسائل الإعلام على توجيه الرأي العام بذلك الشكل الدراماتيكي وأضاف إنه على كل طاغية ان يخشى من تكنولوجيات الإتصال. الجلسة المسائية تواصلت اكثر من ثلاث ساعات مع الخبير اللبناني الأصل أكرم إلياس وهو مستشار في الديبلوماسية العامة والتدريب والإتصال عبر الثقافات طيلة اكثر من ربع قرن. قدم السيد إلياس محاضرته بشكل مسرحي بديع وحاول تفكيك بنية الثقافة الأمريكية لنا كصحفيين عرب بعضنا يشرف على مراكز بحوث ودراسات. أمّا نحن في تونس فمؤسساتنا الإعلامية لا يهمها كثيرا موضوع الدراسات والبحوث والإستشراف مقابل الإهتمام الشكلي بالتقنيات الحديثة دون التفكير في صناعة المحتوى ... أكد أكرم إلياس أن حجر الزاوية في المجتمع الأمريكي هو الفرد وأهم عيد رسمي هو عيد الشكر الذي يشكر فيه الفرد من يشاء دون تحديد. وأضاف «هناك أربع حقوق تعتبر معطاة من القوة الخالقة هي حرية التعبير وحرية الطباعة والنشر وحرية المعتقد وحرية التنظم ولذلك يمنع على الحكومة ان تسن اي قوانين تحد من هذه الحريات كما لا توجد وزارة إعلام ولا وزارة ثقافة. أما وسائل الإعلام الأمريكية فتجارية في مجملها ، وأما الأحزاب فلا توجد فيها عضوية ولا إشتراكات بل هي ماركات سياسية والفرد يصبح ديمقراطيا بمجرد أن يصرح بذلك ويمكنه أن يغير إنتماءه من الغد ومتى أراد ذلك. ولذلك فإن الإعلام الأمريكي مستقل ولا أقول حرّا. وعاد المحاضر لفكرة إنغلاق الأمريكيين ليبين أن قرابة 99 في المائة لا يهتمون بالشؤون الخارجية فيما يمارس الواحد في المائة ضغوطاته من خلال الشركات التجارية ومجموعات التعاطف من قبيل اللوبيين الإسرائيلي والكوبي... والمنظمات غير الحكومية في ملفات البيئة وحقوق المرأة والطفل... ومراكز الفكر أو ما يسمى هنا بخزانات الأدمغة ...