استقبل جمهور مهرجان «كان» يوم الإثنين الماضي فيلم «عمر» للفلسطيني هاني أبو أسعد في إطار قسم»نظرة ما» بشكل احتفالي واختلطت الدموع بنظرات الاستحسان والتصفيق الذي لا ينقطع ... ويبدو أن هاني أبو اسعد نجح في لمّ شمل كل العرب الموجودين في المهرجان، نقاد وصحافيين ومديري مهرجانات من كل البلاد العربية ، وحضور لافت للسينمائي الفلسطيني ذي الشهرة العالمية إيليا سليمان والممثل محمد بكري صاحب رائعة «المتشائل» على خشبة المسرح و»جنين جنين» و»من يوم ما رحت» وبطل فيلم»عيد ميلاد ليلى» الذي كان مصحوبا بزوجته «ليلى» وإبنهما صالح (شارك في فيلم «الزمن الباقي» لإيليا سليمان) لمشاهدة آدم بكري (الخامس في ترتيب أبناء محمد بكري) الذي قام بدور عمر في فيلم «عمر»، وبالمناسبة فإن شركة إنتاج هاني أبو أسعد تحمل أيضا إسم عمر؟ تدور قصة الفيلم حول عامل المخبزة عمر (ادم بكري) الذي يتفادى رصاص القنص الاسرائيلي يوميا، عابرا جدار الفصل العنصري، للقاء حبيبته نادية شقيقة صديق الطفولة (طارق) ويتعرض عمر للإذلال من طرف جنود الاحتلال بسبب ودونه ، ودون إقناع درامي نكتشف جانبا آخر من شخصية عمر الذي لا ينتمي إلى أي فصيل فلسطيني إلا إذا أولنا كتابة «الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين» على جدار الفصل على أنها إشارة إلى إنتماء ما إلى هذا الفصيل العلماني في المقاومة الفلسطينية . يخطط «طارق» لعملية قنص أحد الجنود الإسرائيليين، ويتكفل عمر بسرقة السيارة التي سيتم إستعمالها للهروب بعد تنفيذ العملية في ما يتولى ثالثهما «أمجد» بإطلاق الرصاص بعد تردد. تتم العملية بنجاح تام دون أي أضرار جانبية وتحرق السيارة حتى لا يظل أي خيط يمكن أن يوصل قوات الاحتلال إلى الفدائيين. دون مقدمات ودون أن يعطينا المخرج أدوات يفسر بها المشاهد سير الأحداث ومنعرجاتها تتم ملاحقة الأصدقاء الثلاثة ويتم إعتقال «عمر» ويتعرض إلى ضغوطات جسدية ونفسية رهيبة ثم يتم إطلاق سراحه من طرف ضابط الإحتلال «رامي» الذي طلب منه أن يكشف له عن مكان إختفاء «طارق» المتهم بقتل الجندي الإسرائيلي ، كيف عرف الإسرائيليون بمنفذي العملية؟ من أخبرهم بأن طارق هو منفذ عملية القنص؟ لا أحد يعلم مبدئيا لا من داخل الفيلم ولا من خارجه، ولكن كانت الشكوك تجاه عمر مبررة دراميا، لماذا لم توجه الشكوك إلى «أمجد»؟ من قام بحمايته؟ أسئلة تظل معلقة إلى حين ... تتماهى المشاعر الممزقة لعمر مع المشهد الفلسطيني المعاصر حيث الشقاق في كل مكان، حماس في غزة وفتح في الضفة، حكومة هنا وحكومة مقالة هناك، مفاوضات ومفاوضات وإتفاقات تبرم دون أن تنفذ وأخرى تعلق بعد تنفيذها جزئيا، وساطات قطرية ومصرية ... لكن القطيعة متواصلة ، لكن ما هو مؤكد أن ما يفعله الشاب هو تعبير مطلق عن حبه. تتطور الأحداث سريعا وبشكل حاد ليكتشف المشاهد الجالس على نار التشوق إلى معرفة الحقيقة أن أمجد هو الخائن وهو الذي تسبب في مقتل طارق وفي ضياع «نادية» من حبيبها وفي تغذية الشكوك نحو صديق الطفولة عمر... تدور أحداث فيلم»عمر» في مكان ما لا يحدده المخرج من الضفة الغربية وان كان التصوير تم على مدى أربعين يوما بين نابلس والناصرة، وفي غياب ترخيص اسرائيلي للتصوير امام جدار الفصل الحقيقي، اعاد المخرج بناء جزء من الجدار كديكور يحضر بشكل حاسم في الفيلم . وصرح المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد، بعد عرض فيلمه «عمر»ضمن فعاليات الدورة 66 لمهرجان «كان» السينمائي، في قسم «نظرة ما»، إن الحياة تمنح قصصًا رائعة للكُتاب، وفيلم عمر ليس استثناءًا لهذه القاعدة، مشيرًا إلى أنه بكى أثناء تصوير الفيلم بسبب أحد المشاهد التي تفاعل معها»، وأضاف «أبو سعد» الذي كان مقيما لسنوات بهولندا وعاد للإستقرار بمدينة الناصرة: «كنت برام الله منذ بضع سنوات، أتناول فنجانًا من الشاي مع أحد الأصدقاء، الذي روى لي محاولة عميل مخابرات استعمال المعلومات التي بحوزته لإجباره على العمل معه، وحاولت معرفة المزيد عن هذا الموضوع منه لدراسة التبعات التي يمكن أن تتسبب فيها علاقات الحب والصداقة والثقة» وتحدث عن كواليس العمل قائلًا:«عشت لحظات سعيدة في هذا العمل لم أعشها في أي فيلم من قبل، حتى أن بعض مشاهدي أثرت في شخصيًا ولمست عواطفي حتى أنني لم اتمالك نفسي من الدموع أثناء تصوير أحد المشاهد قبل أن (أقطع) المشهد، ونظرت إلى الأسفل لأنني أردت إخفاء عيناي التي كانت مليئة بالدموع» واستكمل الموقف قائلًا: «بعد ذلك اكتشفت أن طاقم الفيلم كان له نفس الإحساس بهذه اللحظة، لقد حبسنا دموعنا جميعًا، وهذا جعلني أتساءل؟ لماذا يحاول الناس إخفاء أحاسيسهم وغيرهم لا؟ لماذا نحرم أنفسننا من تشارك هذه اللحظة خلال تصوير فيلم في مكان نعمل فيه جميعًا؟، وتأكدت في هذه اللحظة أن السينما قوية جدًا، لأنها المكان الذي يذهب إليه الناس لإخراج أحاسيسهم دون تحفظ، إنه المكان الذي لا يكبح فيه الناس أفكارهم وعواطفهم» ينتهي الفيلم بقتل عمر للضابط الإسرائيلي»رامي» الذي تسبّب في إدخاله إلى نفق مظلم من الشكوك ودمّر حياته وتسبب في خسارته لحبيبة عمره «نادية» التي كتب لها آلاف الرسائل والقصص والحكايا والنكت وتسلق من اجل ملاقاتها جدارا يصعب الفكاك منه وتعرض للإذلال أكثر من مرة ... ولكن « أمجد» الذي خان صداقة عمر وإفتك منه «نادية» غدرا بعد ان شوّه سمعتها يواصل حياته قرير العين هانئا بولديه بعد ان تزوج بما قدمه له عمر من مال ثمرة نار الفرن الملتهبة طيلة سنوات ... تزوجت نادية ولم تحقق حلم «عمر» في ان تواصل دراستها، أما عمر فخسر كل شيء، الحبيبة والسمعة والكرامة ... حتى أنه بات عاجزا عن تسلق الجدار... ماذا بقي له؟ لقد إرتبط نسق الفيلم وإيقاعه صعودا وهبوطا بحركة عمر الذي لم يكن يتعب من الركض والجري والتسلق والقفز حتى تدمى يداه... كان لهاث أنفاسه يتردد في القاعة والأعين ترقب حركته السريعة، كم من ممثل عربي كان بوسعه أن يكون عمر في فيلم هاني أبو أسعد؟ وأنا أشاهد حركة عمر مرت بذهني صور أحمد السقا في فيلم»إبراهيم الأبيض» لمروان حامد الذي عرض قبل سنوات في 98 نهج الأنتيب وصوّرت الصحافة المصرية الحدث على أنه فتح مبين، كان أداء أحمد السقا كراقصة على أبواب الإعتزال باتت تتعمد التعري لتغطي على ترهل أردافها ... جري وجري وجري من أجل لا شيء سوى أن يظهر البطل المغوار أحمد السقا نفسه لا إبراهيم الأبيض...وكأنه يصور ومضة إشهارية لقناة النيل سينما...أما آدم بكري خامس أبناء محمد بكري(الذي بكى خلال العرض المسائي للفيلم) فنجح في الذوبان في «عمر»، شاب فلسطيني في مطلع العشرينات، لا إنتماء سياسي واضح له، لا يصلي، لا يشرب الخمر، كل حياته هي العمل وحبيبته نادية ... حتى انه لم يفكر في النضال الوطني إلا عندما عرقل المحتل تواصله مع حبيبته، هو اصلا لم يفكر في النضال فقد وجدناه يتدرب دون مقدمات على إطلاق الرصاص... خلا الفيلم من الشعارات الثورية الخلّب التي تقول الكثير ولا تعني سوى القليل، وفي ديكورات الفيلم إشارات حمالة اوجه لملك مصر المحروسة فاروق والممثل عماد حمدي لا عرفات ولا محمود عباس ولا احمد ياسين.... لا احد من هؤلاء، هذا جيل كافر بالأسماء التاريخية. اما القياديين الميدانيين فغلاظ القلب قساة لا يحترمون صداقة ولا عشرة في ظل إحتلال نجح في زرع بذور الشك حتى في فراش الزوجين... صفق الجمهور بحرارة من أجل فلسطين ولكن أيضا لفيلم سينمائي صنع بحرفية عالية يستحق معها أن يكون في سباق السعفة الذهبية لا مجرد ركن في نظرة ما ... ونظل نحن في تونس نرقب بحذر حركة سينمائنا البطيئة التي بات يطلب فيها تحت الطاولة من مخرجينا أن يحذفوا هذا المشهد وتلك العبارة تجنبا للمشاكل ... وهم لا يعلمون أن سياسة النعامة قد تكون سببا رئيسيا في غياب صورتنا عن اكبر شاشات العالم... «كان».