ارسم نقطة امامك. لا تلتفت يميناً او يساراً لا تحرك رأسك... ولا داعي للمقاومة... اشطب عالمك الأرضي من ذاكرة عينيك وحاول ان تعدل مشاعر الرهبة والخوف من المجهول في ثنايا النفس... تقدم الى المغامرة... ودع الأشياء تجري بمقاديرها... واسبح في الفضاء". لا شك في ان الكلمات تخوننا عند ترجمة صدمة البدايات او حال الشدة والرهبة... فليس الخبر كمعايشة الحقيقة... تعددت الروايات حول ما نطق به رواد الفضاء عند خوض تجاربهم الأولى في عقد الستينات من القرن الماضي. لا احد يعرف مشاعر عباس بن فرناس بعدما طار ثم حط مغشياً عليه... كتب الأمير سلمان مذكراته كأول رائد فضاء عربي... ودفع الأثرياء الجدد في العالم ملايين الدولارات لرصد اللحظة المدهشة في تجاوز قوانين الأرض والجاذبية والسباحة في رحاب الكون... شاهدنا بأم اعيننا نساء من الشرق "الأوروبي" وغربه يقطعن حاجز الصوت وجدار الجاذبية وسطح الأرض في رحلة لاستكشاف اسرار المحيط الخارجي... "درة" التونسية، لم تمش على خط آرمسترونغ وترفع راية وطنها على سطح القمر... لم تدفع الملايين في رحلة فضائية... ولم تصبح بعد عضواً في القائمة المغلقة لرواد الفضاء... ولكنها نطقت بما تقدم، عندما خاضت اول تجربة في الفضاء وسجلت اسمها بالأحرف الأولى كأول امرأة عربية مسلمة تشارك في تدريبات رواد الفضاء... لو عدنا قليلاً الى الوراء... وبحثنا في صور المرأة التونسية في صيف 2003 المنسل رويداً رويداً... لوجدنا الصور النمطية في حفلات الأعراس ورقص المهرجانات الصاخبة ونشوة حياة الشواطئ، لتصعق بالتداعيات السلبية لهذا الصيف على إحدى رائدات النهضة النسائية العربية المنشودة... عجّت الصحف المحلية والغربية ومواقع الإنترنت بتتبع خطى ذلك المريض المجنون الذي "شلط" بآلة حادة "مؤخرات" اكثر من 23 شابة وامرأة تونسية في سلوك عدواني ينم عن رسائل لمن يهمه الأمر من علماء النفس والاجتماع وأخصائي علم الجريمة. لم يكن مشوار درة الصالحي الدراسي والأكاديمي استثنائياً في بلد تبلغ نسبة المتعلمين فيه 99 في المئة وتمثل الطالبات اكثر من 50 في المئة في ساحات الجامعات ومنصات التتويج العلمي. وهي حققت درجة الامتياز في شهادة البكالوريا ما مكنها من الحصول على منحة حكومية لمواصلة ابحاثها في الغرب وتحديداً في المدرسة العليا للفيزياء والكيمياء الصناعية في جامعة باريس، حيث انكبت على التحصيل والمشاركة في المؤتمرات العلمية وأغنت سيرتها الذاتية بالمشاركة في البحوث المعملية والكتابات البحثية في تخصص دقيق هو الفيزياء الميكانيكية. وهناك جذبت اهتمام مدرسيها بجديتها وطموحها، فاختيرت من بين بضعة رجال ونساء للمشاركة في مشروع رحلات الفضاء الممول من المعهد الوطني لدراسات الفضاء في فرنسا. وبحسب دوائر المعهد فإن "الهدف من هذا المشروع هو تدريب الرجال والنساء على العيش في اجواء تدريبات رواد الفضاء..." وإذا اضيف الى ذلك البعد الأكاديمي للباحثة درة الصالحي في سبرها خفايا هذه التجربة وتداعياتها على علوم البيولوجيا والكيمياء وصناعة المعادن... يصبح التحدي مضاعفاً والتجربة مليئة بالدهشة... تعود الذاكرة بدرة لتروي تفاصيل لحظة البدايات فتقول: "دُعينا الى الصعود على متن طائرة من نوع ايرباص، ربما بدت قديمة في صناعتها ولكنها كشفت عن ديكور مختلف تماماً على الطائرات التجارية... غابت المقاعد وابتسامة المضيفات وتعليمات السلامة والنجدة... وحلت مكانها الآلات العلمية وفضاء التجربة المثيرة Free Floating حيث يمكن السباحة بحرية وخارج قانون الجاذبية... ووضعت علامات ممنوع الدخول في فضاءات اخرى... فهنا يصنع احد اسرار الصناعة الفرنسية". رسمت درة نقطة امام عينيها... تحكمت في عضلات تحريك الرأس... وسلمت امرها الى الله والتجربة، ليلفها احساس عميق في فضاء الميكروجاذبية. بدأت تشعر بثقل جسدها يتجاوز وزنه العادي (60 كلغ) احست بفراغ غير عادي في مستوى الأذنين... ولكنها قطعت نقطة العودة حيث لا يمكن إلا مواصلة المشوار. ثم اعلن الطيار اللحظة الكبرى: إطلاق، وفي اقل من ثانيتين قذفت درة خارج مقعدها، ولولا حزام الأمان الذي يشدها لصرخت من شدة الرهبة، سبحت درة في الفضاء، وانسل قلم من جيب سترتها وكأنه جاء ليشاركها وحدتها الشعورية ويخفف من وطأة الاكتشاف في عالم اللاجاذبية. مرت 20 ثانية ليسمع صوت الطيار من جديد معلناً العودة الى نقطة البداية. ليعود الجميع الى وضعهم الطبيعي ومقاعدهم. لا شك في ان التجربة الأولى كانت استثنائية بجميع المقاييس، وكان يكفي إعادتها ثلاث مرات لتتعود درة على المكان ويدفعها حسها الأنثوي الباحث عن خفايا الأمور ولذة المغامرة الى استكشاف كل الوضعيات الممكنة. جربت الصعود الى السقف، السباحة في المكان، بل انها استمتعت بثلاث رحلات في غرفة القيادة. وما بين اللحظة الأولى والعودة الى اليابسة، عاشت درة الصالحي 31 رحلة فضائية على متن طائرة الإيرباص وفضائها الاصطناعي في غياب الجاذبية. احست درة بشيء من الاطمئنان لكسر حاجز المجهول وقانون الجاذبية، لا شك في ان تجارب اخرى في انتظارها لمواصلة مشروع معهد الفضاء الفرنسي وأبحاثها العلمية، ولكنها اثبتت قدرة نساء العرب على اختراق قوانين الأرض وطموحهن لاكتشاف رحاب الفضاء على رغم ثقل القيود والصور المثبطة المتناثرة هنا وهناك...