بقلم عبد الرزاق قيراط في تغطيتها لثورة الشعوب العربيّة المتنقّلة من تونس غربا إلى الشام شرقا، واجهت قناة الجزيرة تحدّيات كثيرة كان أهمّها، وهذا أمر طبيعيّ، مخاطرتها بنشر مراسليها في مختلف المواقع الساخنة بما في ذلك جبهات القتال في ليبيا حيث استشهد مراسلها علي حسن جابر في كمين قرب بنغازي و اعتقل صحفيّوها قبل أن يطلق سراحهم بصعوبة. و مع بداية الانتفاضة في سوريّة، واجهت إدارة الجزيرة تهما تشكّك في نزاهتها. و كانت استقالة غسان بن جدو مدير مكتبها في بيروت مبعثا للريبة حول ما وصف بخيانتها للقواعد المهنيّة على خلفيّة تغطيتها لأحداث سوريّة بالشكل الذي أبعدها عن" كونها وسيلة إعلام، و حوّلها إلى غرفة عمليات للتحريض والتعبئة". و لكنّ القناة تجاهلت طبعا تلك التهم، و واصلت عملها متمسّكة بانحيازها عن وعي إلى جانب الشعوب العربيّة الثائرة في وجه الأنظمة الاستبداديّة. ظهر ذلك حين صفّق صحفيّوها في استوديوهات الدوحة بحرارة عقب الإعلان عن هروب بن علي، و حين رابط مراسلوها مع المصريّين في ميدان التحرير و مختلف المدن المصريّة رغم منعهم و التضييق عليهم، فقدّموا بإصرارهم ذلك تأييدا لشباب الثورة بضغط الصورة الفاضحة لمناورات مبارك و هو يقاوم من أجل البقاء. و بنفس هذه السياسة الإخباريّة، مازالت القناة تخصّص مساحات واسعة لبثّ التقارير القادمة من سوريّة عبر الهواتف النقّالة ما يجعلها عرضة لردود أفعال متناقضة بين مهاجم و مدافع. و إذا كانت قرينة المهاجمين لها ازدواجية المعايير باستخدامها " أسلوب التعبئة والتحريض في ليبيا و سوريّة " مقابل نأيها عن تغطية مماثلة لما حدث في البحرين من حراك شعبيّ أو ما يحدث في قطر من إخلالات، فإنّ قرينة المدافعين عنها قناعتُهم أنّ الحياد التامّ لأيّة وسيلة إعلاميّة أمر مستحيل إلاّ إذا كانت تمارس عملها انطلاقا من كوكب آخر بعيد عن ضغوطات حكّام الأرض و مصالحهم. كما ذهب شقّ من المؤيّدين للجزيرة إلى اعتبار انحيازها إلى الشعوب في نضالها ضدّ الدكتاتوريّة مسألة حميدة لا تتعارض مع مبدأ النزاهة المهنيّة بل ربّما تمثّل النزاهة بعينها. و هكذا تطوّر الانحياز المباح أو المحمود الذي ظهر في تغطية الجزيرة لثورة الشعبين التونسي و المصري، إلى درجة الرعاية أو ما اعتبر "تعبئة" في مواكبتها لثورة 17 فبراير على نظام القذافي و انتفاضة السوريّين على النظام البعثيّ. ونبرّر ذلك التمشّي – دفاعا عن قناة الرأي و الرأي الآخر - بما تعرّضت له من تحامل ضدّ تغطيتها المؤثّرة بعد أن ساهمت في الإطاحة بنظامين في فترة وجيزة. ما جعلها عرضة إلى حملات تتّهمها "بالتآمر و الكذب لخدمة أجندات غربيّة أو صهيونيّة". فمن البديهيّ أن تقابل هجمات التكذيب و التشكيك بالتركيز المكثّف على الصور التي تؤيّد رواياتها الأمر الذي يظهر عملها بذلك المظهر المريب. و لا تبدو الجزيرة عازمة على تخفيف مشاكستها لنظام دمشق رغم تراجع المجتمع الدوليّ عموما عن نصرة الشعب السوريّ و تحقيق رغبته في الانعتاق من الظلم و الاستبداد. تراجعٌ يتشكّل تدريجيّا من مؤتمر إلى آخر، و من خلال التصريحات المتوالية التي تدعو إلى الحوار بين السلطة و المعارضة. و أخطر ما في هذا الخيار الدبلوماسيّ الجديد أنّه يمنح الأسد فسحة تلو أخرى للتمادي في قتل أبناء شعبه و تشريدهم. ما يضع السوريّين في ورطتين خطيرتين، فإمّا فشل الانتفاضة و بقاء النظام، و إمّا تقديم المزيد من الضحايا لتحقيق انتصار قد يتأخّر أوانه في غياب إرادة التسليح للجيش الحرّ و تواصل الخلافات بين قوى المعارضة. و يساهم كلّ ذلك في إحراج الجزيرة خاصّة إذا أجبرتها الأحداث يوما على إعلان فشل الثورة السوريّة بعد سقوط آلاف الضحايا، ما سيؤدّي إلى بقاء نظام الأسد الآخذ في التعافي باعتباره الآن شريكا في التسوية بعد أن كان معزولا عنها. و مبعث ذلك الحرج أنّ ما تحقّق من نصر للتونسيّين و المصريّين و الليبيّين وضع الجزيرة أيضا في مقام المنتصر و جلب لها الإشادة و الاعتراف بدور مهمّ قامت به، لذلك فإنّ مرارة الهزيمة التي قد تحيق بثوّار سوريّة ستشمل بطبيعة الحال المحطّة الراعية لهم و تتجرّع منها نصيبا قلّ أو كثر. و لتجنّب هذا المصير فإنّ قناة الجزيرة ستواصل على الأرجح السير بتوافق مع السياسة القطريّة، التي تركّز جهودها الدبلوماسيّة على دعوة المجتمع الدوليّ إلى الضغط أكثر فأكثر على نظام الأسد و المطالبة برحيله في عناد واضح لنهج مخالف يوصف بالتراخي و التساهل مع دمشق. و في هذا الخضمّ المتصارع، نعتقد مراهنة أنّ الجزيرة ستصرّ على بلوغ هدفها المعلن أو الخفيّ، و لعلّها ستقبل _ بتصميمها على مواصلة حربها الإعلاميّة لإزعاج دمشق _ أن تكون السلاحَ الوحيدَ الذي سيبقى للمعارضة و الشعب المنتفض بعد تراجع الوعود بتسليح الجيش الحرّ حتّى يتمكّن من إسقاط النظام. و بهذا الدور، ترفع قناة الجزيرة التحدّي الأكبر في مسيرتها لأنّ تغطيتها لأحداث سوريّة أو معركتها ضدّ نظام دمشق لن تتوقّف إلاّ عندما تطيح بالأسد، مهما اختلف حولها الرأي و الرأي الآخر.