بقلم: شكري بن عيسى (*) نسبة التسجيل في الانتخابات في اليومين الاولين كانت محتشمة جداً، الارقام المقدمة تبعث على الحيرة والانشغال العميق، وإذا ما أخذنا الرقم الجملي للمسجلين، في دورة أكتوبر 2011، في الداخل والخارج الذي بلغ 8.739.644، تضاف اليه 400.000، وهي مجموع اعمار 15 و16 و17 سنة التي بلغت سن الانتخاب (18 سنة) صافي عدد الاموات، نجد ان الرقم الجملي للناخبين في 2014 يفوق التسعة ملايين، لم تسجل منها في 2011 سوى 4.468.746 في الداخل والخارج والباقي قرابة 4.670.698 لتسجيلها قبل يوم 23 جويلية القادم، وهو ما يعني ان العدد المطلوب للتسجيل بعملية حسابية بسيطة يفوق 155 الفا يوميا وهو رقم بعيد المنال، هذا دون الأخذ بعين الاعتبار عمليات تغيير مركز الاقتراع المتعددة بالنسبة للمسجلين السابقين. حسب متحدث باسم هيئة الانتخابات في نشرة أخبار الثامنة ليوم الأربعاء على الوطنية 1، الرقم الأعلى كان في تونس الكبرى، ولم يتجاوز في العموم 6000. في الولايات الداخلية الارقام لم تتجاوز العشرات في الأغلب. يوم الخميس في ندوة صحفية أفاد عضو الهيئة أنور بن حسن ان عدد المسجلين في حدود 7500، واعلن اطلاق حملة تحسيسية كبرى للتسجيل، لتدارك التعثر الكبير وتجاوز الارقام الهزيلة، ويبدو ان الحديث عن "المشاركة الواسعة" اصبح من الآن في وارد المستحيل في الانتخابات القادمة إذا علمنا ان القانون الانتخابي لا يسمح بالاقتراع الا لمن كان مسجلا في الآجال. الشعار الدعائي للهيئة الانتخابية، "نحِب تونس، مَالهْ نقَيٌد"، كان كالعادة غير محرك ويفتقد للإلهام، وزادت في إلقاء الضبابية عليه حملة نداء تونس الحزبية الضيقة بشعار " باش تصلح 23 أكتوبر 2011، قيد روحك في 23 جوان 2014"، ورد عليه حزب المؤتمر بحملة تحت شعار "بش تصلح 23 سنة فساد، قيد روحك في 23 جوان 2014". الوعود كانت كبيرة من الهيئة الانتخابية، وحملة إشهارية لم نكد نلمح آثارها برغم كلفتها الباهظة، ولكن المشكل الحقيقة أعمق وابعد من مجرد الاعتبارات الإجرائية الشكلية على أهميتها، ولا تتحمل الهيئة اصل الاشكال. ويبدو ان المواطن فقد الى حد مرتفع الثقة ليس في السياسيين والأحزاب فقط وإنما في المنظومة السياسية في مجملها بعد ان كان في الطليعة من اجل دحر الاستبداد والفساد والتبعية للخارج ابان الثورة وبعد ان استرجع موقعه الوطني في كل التحركات التاسيسية للديمقراطية مباشرة إبان هروب المخلوع من السلطة. عندما يفقد المواطن ثقته في المنظومة السياسية لتحقيق الاستحقاقات الأساسية للدولة، ويرى في نفسه مجرد رقم انتخابي تلجأ له الأحزاب ليضع الورقة في الصندوق ويظفي عليها المشروعية الشعبية ويمنحها التفوق "العددي" للاستأثار بالحكم، ثم بمجرد الخروج من الخلوة تسخر منه، ويقع التنكر له ويفقد الصوت "الذي كان يحميه"، وقتها تصبح عنده الانتخابات بلا معنى أصلا، ولا يرى فيها أية جدوى فضلا عن المنفعة المباشرة. الشباب خاصة، الفئات الهشة، الفئات المهمشة المسحوقة، الفئات غير المتحزبة، سكان المناطق الريفية والجهات المحرومة، كانوا الأكثر عزوفا عن الانتخاب في انتخابات 2011، ويزداد الخوف الى حد الإحباط لدى هؤلاء خاصة ليس فقط بعد التفريط في المكتسبات الثورية والإخفاق الحاصل في تحقيق اغلب أهداف الثورة، وإنما زيادة، لتحويل المشهد السياسي والوطني الى ساحة للاحتكار والاستأثار والهيمنة الحزبية وتحويل الوطن الى ساحة للازمات وللتناحر والتطاحن السياسي وتقسيم المجتمع على أساس ايديولوجي ومنطق "النموذج المجتمعي"، وفقدوا بالتالي كل دافع وكل حافزية خاصة مع ازدياد التدخل الاجنبي، وطغيان المال السياسي الفاسد الذي قد يكون المحدد للنتائج ويزيد في ترسيخ منطق الزابونية على حساب منطق الاستحقاق والاقتدار. النظام الانتخابي على اساس القوائم والمناصفة بين المرأة والرجل غير المنصف في عمومه زاد في تعميق اليأس وقد تمت خياطته على مقاس الأحزاب ويبدو على الغالب انه لن يسمح بصفة مريحة لترشحات المستقلين من الأفراد من شباب الثورة (التي يناسبها نظام الاقتراع على الأفراد). المنظومة الإعلامية القاطرة التي من المفترض ان تقود وتوجه وتكشف وتراقب وتقوم مقام السلطة الحقيقية، لا زالت بدورها، واقعة تحت هيمنة الايديولوجي والمالي والنوفمبري والدولي ولا زالت وفية في عمومها لأغلب موازين القوى واعتبارات السابقة ل14 جانفي، واليوم هي أيضاً لا تكرس في الغالب سوى التهميش والانحراف بالقضايا الأساسية وتكريس التضليل والغرق في المستنقع الحزبي وعدم الالتزام بالتعددية والتنوع والتشريك الواسع لكل الحساسيات وعرض الأفكار الريادية والمقاربات المبتكرة. فئات كثيرة في الواقع اصبحت لا ترى في المنظومة السياسية أساسا للإرادة الشعبية والمشاركة الفعالة للمواطن في الحكم ومساهمته في النهوض بالوطن، ولا أيضاً مصدرا للتوزيع العادل للثروة وصونها من النهب الداخلي والخارجي. أساس السلطة السياسية الدستور الذي يعتبر المعيار القانوني الأعلى تمت صياغته بطريقة فوقية نخبوية بمنطق موازين القوى كرست تقاسم السلطة والنفوذ بين "الكبار" بطريقة التسويات والصفقات، وصيغت القواعد على قياس الاشخاص، مثل الفصل 74 في خصوص السن الاقصى التي تم الغاؤها لفائدة السبسي او الجنسية الاجنبية التي تم التخلي عنها عند الترشح لفائدة الهاشمي الحامدي، واقامت دكتاتوريات قطاعية بحصانات كبيرة لفائدة القضاء والنقابات والمحاماة والنواب، وغرقت في الصراعات الأيديولوجية والثقافوية خاصة في الفصل 6 المتضمن لحرية الضمير ومنع التكفير وحماية المقدسات، مع تغافل وتعاضي على القضايا المركزية في خصوص تأخر العدالة الانتقالية وفقدانها للفاعلية مع طمس معالم الجرائم، وعدم نشر الاتفاقيات المتعلقة بالثروات الطبيعية المنصوص عليها بالفصل 13، أو إسقاط الفصل 26 المتعلق بتجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني. وما زاد في الشعور لانسداد الآفاق هو افلات قتلة الشهداء وكل رموز الفساد من كل محاسبة عادلة تنصف الضحايا وترد لهم اعتبارهم، ولا جلب المخلوع وحاشيته للمحاكمة ولا استرجاع الأموال المنهوبة، ولا تحقيق الحد الأدنى من التنمية الجهوية ولا تقليص المديونية وإيجاد أفق واضح لمشكل البطالة، مع استمرار الهيمنة البوليسية عن طريق النقابات الامنية، وتصاعد التدخل الأجنبي والاملاءات المالية الدولية واستفحال الرشوة والمحسوبية وعدم تقديم أي جرد للثروات المنجمية والنفطية والطاقية وطرق استغلالها بمنطق الشفافية، يضاف الى ذلك الوضع الأمني الخانق والمعيشي المتردي وتضخم الأسعار وتدهور المقدرة الشرائية، وطبعا الحديث عن ذلك ليس من منطق ترجيح الحكم النوفمبري بالمطلق، ولكن من منطق اخفاق الطبقة السياسية في العام على حمل أمانة الثورة وتخريبها لأغلب منجزاتها بعد ان تعاملت معها بمنطق التحوّز والاستأثار والغنيمة. المشكلة تتمثل في غياب حد ادنى من الضمانات، في المنظومة القانونية او المنظومة السياسية او الاحزاب، بالنسبة للكثيرين، ولكن في الحقيقة من الحيف والضيم والعدوان رمي المسؤولية على السياسيين والأحزاب والإعلام، والتفصي من كل مسؤولية المبالغة في اعتبار لوبيات الفساد ومكونات الدولة العميقة على أهميتها، فالوضع الحالي والاخفاقات المسجلة يتحملها أيضاً المواطن بمشاركته السلبية سواء عبر إغراق البلد بالمطلبية الفؤية والقطاعية والمهنية والجهوية على حساب الاستحقاقات الثورية أو تركه المجال فسيحا للأحزاب للتحكم أو لوسائل الإعلام والدولة العميقة للاستأثار. الم يكن حريا بالمواطن شابا أو شيخا أو طفلا مهما كان موقعه ان يقوم بدور مهما كان قل فتكون المساهمات حين جمعها عالية القيمة، فضلا عن ثقافة المشاركة!؟ أليس الانسحاب والاستقالة وترك الساحة هو تشجيع على مواصلة الأطراف المتحكمة لنفس النهج وبالتالي عدم أحداث أي تغيير فضلا عن سلوك ومنطق وثقافة السلبية التي ستسود!؟ أليس الاصل هو المشاركة والتنافس والتدافع والصراع الإيجابي من اجل التقدم وإيجاد الحلول!؟ اكيد ان الديمقراطيات الحديثة تم إفراغها من اغلب محتواها بهيمنة زواج المال والسلطة والإعلام وبروز اللوبيات ومراكز النفوذ والكارتيلات المتحكمة ولكن وجودها لا يعني الانكماش والغرق في الذرائعية ووضع الرأس في الرمل والتسليم بالعجز، وبالتالي مزيد تقديم أسباب تمرير الأجندات المضادة لإرادة الشعوب ومصالحها! اكيد المواطن المتضرر والواقع تحت الظلم والاستغلال هو اكثر الناس بحثا عن تغيير الواقع ورفض الهيمنة، ولكن المشكل هو في الاغتراب وتزييف الوعي الممارس من النخب والاعلام والذي قد يبرر الخنوع والاستكانة في كثير من الأحيان والحالات ويفقد المتضررين الإرادة والقدرة على القرار والحركة والنضال من اجل ترسيخ القيم الانسانية. المقاطعة اكيد هو موقف "سلبي" ولكنه يظل موقفا، له وزنه واعتباره والانتخابات تفقد جزءا من المشروعية ولا تعبر على الإرادة الشعبية ولا تعكس سلطة الشعب إذا كانت مجتزأة أو مشلومة، ورصيد الثقة يكون عندها ناقصا، بل ومهدد عند اول أزمة أو تقصير أو فشل، والمقاطعة هي "أضعف الإيمان" وهو أضعف أشكال الرفض، ولكنها قد تكون اكثر فعالية إذا ارتبطت بأمرين اساسين وأمر جوهري: - الأساسيين هو ان ترفقها احتجاجات ميدانية سلمية للتعبير عنها وأيضاً ان تواكبها تغطية إعلامية متناسبة مع أهميتها وتعبيرتها. - أما الامر الجوهري، فهو ان لا تقود المقاطعة لفسح المجال في الانتخابات لاستأثار حزب معين معادي للثورة خاصة بالساحة السياسية وهو ما يمكن ان يهدد ويستأصل ما بقي من مرتكزات ثورية، يصعب بعده استمرار الحد الأدنى من المسار الثوري. لا شك ان مع خيار المقاطعة هناك خيارات اخرى متقاربة ولكن تفترض التسجيل في الانتخابات في مرحلة اولى، وهذا في المنطلق يعني إضفاء شكل من المشروعية على المنظومة القانونية السياسية القائمة وقد لا يقبلها الكثيرون من أصحاب المواقف الراديكالية، ولكن المسألة نسبية بالنظر الى الخيارات الكبرى والأهداف الرئيسية. خيار التسجيل لا يعني انه لا يسمح بالمقاطعة، وهو أيضاً يسمح بخيارات ذات مدلولات ورمزية هامة وبالتالي يحقق مستوى من الفعالية وذلك عبر آليات "التصويت الرمزي" أو "التصويت الأبيض" أو"التصويت الملغى" أو "التصويت المجدي" أو "التصويت العقابي". وفي كل الحالات هذه الخيارات الفعالة تكون اكثر فعالية عند اقترانها بحركات ميدانية وفكرية واقترانها بحملات إعلامية واتصالية تحسيسية أو احتجاجية، التصويت الرمزي هو شكل من التصويت بوضع شعار جماعي واضح على غرار "يسقط السبسي" للتعبير عن الرفض القطعي لشخصية وأفكارها ومرجعياتها وارتباطاتها بمنظومة معينة، وهو عالي الفعالية السياسية والرمزية، باعتبار الصدى الترويجي العالي قبل الانتخابات وعند فرز النتائج، ولكن عيبه انه قد يحرم الشخصية المنافسة للشخص المرفوض من كسب "التأييد" والاستفادة من الأصوات المعنية، إذ وضع الشعار في صندوق الاقتراع يجعل الصوت ملغى وبلا فائدة في نتائج الانتخابات لصالح الهدف المنشود، ولكنها تبقى طريقة تعبيرية أصيلة وفيها جاذبية كبرى وبالتالي تأثير بالغ. الطريقة الأخرى هي الورقة الملغاة قصدا وهي طريقة يعبر فيها المقترع داخل مجموعة عن رفضه لكل المقترعين بشطب بالأحمر لكل على كل الورقة، وهو ما يجعلها ملغاة ولا تحتسب في الحاصل الانتخابي، هذه الطريقة أيضاً فعالة برمزيتها والتعبئة والحماس الذي يمكن ان تخلقه في حركة جماعية، ولكنها تختلف عن الاولى بكونها ليست موجهة ضد طرف بعينه بل ضد كل الفاعلين السياسيين. التصويت بالأبيض هو شكل مقارب للأولين ويتمثل في إرجاع الظرف دون ورقة انتخابية أو بورقة انتخابية بيضاء لا يوجد عليها أي اختيار، مثل الطريقتين الأوليتين هذه الطريقة لا تسمح باحتساب الصوت، وهي أيضاً ليست رافضة لشخص بعينه كما في "التصويت الرمزي" أو لكل الأشخاص والأحزاب كما في "التصويت الملغى المباشر" وإنما هي غير قابلة بكل المرشحين، وهي تحمل رسالة عدم رضى كلي أو جزئي، وهي أيضاً لها أهميتها إذا كانت في شكل مجموعة ترفقها دعاية وحركات ميدانية. الطريقة الاخرى تتمثل في التصويت لفائدة الطرف الذي يستحق لصوتك ويمكن لصوتك ان يحدث الفارق لفائدته وبالتالي سيكون لصوتك دورا ترجيحيا بارزا ويجعل أهميته قصوى، عبر آلية "التصويت المجدي"، وطبعا هذا يكون على أساس اختيار الطرف الأحسن الذي يستحق الدعم سواء من ناحية المبادىء أو البرامج أو الأفكار، أو الشخص. طريقة اخرى عالية الفاعلية لمن يرفضون الانخراط في العملية الانتخابية يمكن ان تعبر عن "الرفض" من جهة وعن "تحقيق نتيجة" من اخرى تتمثل في التصويت ليس لفائدة شخص أو حزب وإنما "ضد" طرف اما لارتباطه بمنظومة الاستبداد والفساد أو لأفكاره الاستأصالية الاقصائية أو لبرامجه الليبرالية المتوحشة أو المفرطة في السيادة الوطنية أو غير الداعمة للقضية الفلسطينية أو لعدم إيفاءه بوعود سابقة وعدم مصداقيته أو لعدم جدارته واستحقاقه، وتعتبر "إزاحته" ضرورية وفيها فائدة لما يشكله من خطر سواء على الثورة أو الوطن أو الديمقراطية أو التنمية أو العدالة. هذه الطريقة هي زيادة على رمزيتها وما يمكن ان تحققه من تعبئة لفئات واسعة قد لا تريد ان تختار بين "السيء" و"الأسوأ" ولكنها تجمع على "اقصائها" للاسوأ المهدد لمكتسبات أو الذي يمثل خطرا على المستقبل، وهي بذلك لها اثر بالغ على النتائج وبالتالي نسبة فعاليتها عالية ومعتبرة. طبعا يمكن ابتكار عدة طرق اخرى، كما تجدر الإشارة الى ان هذه الأنواع من الاقتراعات اغلبها احتجاجية، والتصويت على أساس "الانتماء" أو "الأيديولوجيا" أو "البرنامج" أو "الوعود المنفعية" لا يحتاج كثيرا من التفصيل لان أصحابه تقريبا يعرفون الطرف الذين سيمنحونه صوتهم بطريقة في جزء منها "قطيعية"، والبعض بطريقة نقدية. طبعا الكل مسؤول عن اختياراته ولكن اليوم الظرف مفصلي ومستقبل الثورة في الميزان ولا بد للقوى الشبابية ان تحسم الموقف لفائدة المسار الثوري، بالابتعاد اولا عن السلبية، وباقصاء الأطراف المعادية للثورة والرموز النوفمبرية، وخاصة انتخاب رئيس يحقق أهداف الثورة وقادر على تحقيق الانتقال الديمقراطي وأمين على الوطن ومدافع عن استقاله على التدخل الأجنبي مؤهل لتكريس الوحدة الوطنية وعلوية القانون والعدل، الأغلب ان لا يكون الا مستقلا، دون اقصاء التصويت للأحزاب المناضلة في عهد الاستبداد بكل حساسياتها، ففي التنوع يكون التوازن. والاهم هو خلق ديناميكية والتعبير عن المواقف وعن "الوجود" والتنظم وتحقيق التواصل اعلاميا وميدانيا مع أوسع قدر ممكن من الرأي العام لتقديم البدائل، ووضع القواعد والمرتكزات التي ستكرس الحكم الرشيد والاستقلال الوطني وتحقق الأهداف التي استشهد من اجلها المئات.