من أي لون أنت؟ يعجبني العالم، يهمس بداخلي، يقتحمني فأمنحه ذاتي عن طيب خاطر، فتجدني أتلهف عليه فأكونه باستمرار، وأنت هل تتقحمه باستمرار؟... ما لي أراك لا تتلذذ معاشرته؟... تقول أنك مللته، هيهات فهلا عرفته لتملّه؟ تقول انك عرفته والوجه فيك أدنى الاشياء تعبيرا عن ذاتيتك، يغبطني موقفك هذا، ولكن لاحظ اني لازلت أجالسك. لو أنك أخي تستجيب لنظارة العالم فتتواطأ مع صداه، لوهبته ذاتك عن طيب خاطر ولوجدت فيه صرخة تجسدت داخله تحلم ان ينام دوي الرصاص فتكتشف انك تنتظم في قضاء وهي تفتقر الى الحب والصدق وتلهث وتعفّ على رؤية العالم فيستميلك ما ينتصب بديلا عنه: التلفزة، السينما، ألعاب الورق... فيتباطأ نمو العالم فيك ليتسرّب كالغبار يفتنك بقوّته الغامضة فيتحقق فيك عالم غريب تفر منه ولكن تكرره ساعة الهروب، فتكتمل وحدتك فتبتكر لغة تجرفك نحو بذور النفاق، فتستعين بالذاكرة التي يطوّقها الاندثار لتستعيد صورة العالم التي تلاشت فلا تستمع سوى هدير العدم... إن هذه اللحظة المحظوظة التي تخترق صفاء العالم وتحملنا بعمق ان نعشق جماله وصورته تحدث فينا وبكثير من الجموح شغفا بالنقد والفضح.فمعيشنا اليوم يتمظهر ضمن صورة معكوسة تموج بقبح عبر نموذج غير رشيد ألا وهو العولمة، وربما يحق لنا هنا ان نتساءل: ما معنى ان تعدنا العولمة بالحريّة بوهم الحريّة؟ قبل تفكيك ضمنيات هذه المفارقة لا بأس أن نذكّر بما يلي: ❊ إننا لا نبحث عن حل لمشكلة العولمة بما هي معضلة ثقافية كونية على نحو ما وضّح ذلك »سمير أمين« أو »برهان غليون« أو »محمد أركون«.. فما قاله هؤلاء يتطلب منا مزيدا من الجهد العلمي حتى نقتفي الاتجاه النقدي الذي أحدثوه، ولكن حسبنا ان نجترح أسئلة نظرية نهتك من خلالها مواطن مجهولة. ❊ إننا لا تؤجج تحريضا ايديولوجيا ضد العولمة بقدر ما نبرهن ان النقد هو نشاط لابد كلما إلتحمنا بقضايا الانسان، ولا مناص لقطع هذا الطريق من تحطيم طائفة من أوهام العقل. ولسوف نستعين اثناء ترتيب اطوار هذه المحاكمة بعدة مفاهيم (العقل، العولمة،...) قد يحسبها القارئ أقانيم مجردة من كل سياق واقعي وهي بخلاف ذلك لا يمكن ان تفهم الا في صلب الممارسة. نبوءة لم تتحقق الا على نحو معكوس بين »ماركس وانجلز« في كتاب »الايديولوجيا الألمانية« إن حركة التاريخ ليست عشوائية بل هي منظمة بقوانين كلية صارمة تكون فيها المرحلة الشيوعية تجاوزا للمرحلة الرأسمالية وإلغاء للملكية الفردية وتجسيدا للإنسان الشمولي والكلي، ولسنا نريد هنا ان نحتج على مضامين الفلسفة الماركسية وانما ننشد فهم الاسباب التي دفعت الانسانية الى ان تنتج ذاتها في صورة كلية مشوّهة لتبدو العولمة وكأنها قوة تهشيم لا لفكرة الهوية فحسب وانما للإنسان الذي انتزعته من ماهيته وسحقت لديه كل فردية متميزة. وحين نمارس الحرية نخرج الى مستوى التعالي، الى ما وراء الانسان لتفقد الكلمة بريقها وتتهاوى جوهرية العقل فلا يبقى منه سوى عرضية تثبت تآكله. لنصغ الى »فوكو« وهو يرسم لنا هذا المشهد المغترب »إن مصير الانسان يحاك بطريقة عكسية«. (1) ولو شئنا مزيدا من الدقة لقلنا إن ما تبقى من الانسان ليس الانسان بل ما ينتصب بديلا عنه: السلعة، جسد الاشهار، جسد الإغواء... إن خنق الفكر وانتداب الجسد »الايروتيكي« في مسرح الفعل له توابع خطيرة تغذي فينا الميل الى الاستيجارة بالعقل ليكون واسطة للتفاهم رغم اقتناعنا بأنه متورط فيما آل اليه الواقع الانساني اليوم. العقل وإنسداد المشروع العقلاني الغربي لو أردنا تعريف العقل فإن الاجتهادات تكاد لا تنتهي. لنبدأ بالتعريف الذي أورده الغزالي »هو القسطاس المستقيم والمعيار القويم فلا يحتاج العاقل بعد كمال عقله الى تسديد وتقويم« (2) ويعرّفه »أولمو« »لم يعد العقل كمجموعة من المبادئ، انه القدرة على القيام بعمليات تبعا لقواعد« (3) أما »مانويل دوديكي« فيقول »نقصد بالعقل بشكل خاص قدرة الفكر على ملاحظة ومعرفة الاحداث البشرية او الطبيعية كما وقعت بالفعل في الماضي أو كما تقع فعلا في الحاضر، وقوعا يسمح لنا ببلورة الثوابت المتحكمة فيها والناظمة لها وتجعلها من ثمة قابلة للتعبير« (4). عرفنا من خلال هذه السندات ان العقل خاصية نوعية ينفرد بها الانسان. وهذا بلا شك معطى بديهي ولكن الأهم من ذلك ان الحاصل المعرفي والمادي للتجربة الانسانية ضمن مجتمعنا الصناعي المعاصر هو استتباع لأشكال توظيف العقل وانزياحه عن الحقيقة الى السلطة او على الأقل لتحدده في إطار صلته بها ألم يقل »برترند جيمس«: »لقد تم إقحام الانسان بالعصا نتيجة العلوم والتكنولوجيا في عصر بالغ الهشاشة«! يبدو انه لكي تخرج من ازدواجية تقويض العقل او إدانته ان ننقد المسلمات التي قامت عليها العقلانية العربية ونعني بذلك الإحتكام الى مقياس النجاعة أو المردودية وازدراء ما هو »إيتيقي« يقول »رسل«: »إن الأيام الحوالي باع الناس أنفسهم للشيطان حتى تحصلوا على قوى سحرية في هذه الايام يحصلون على هذه القوى عن طريق العلم. وما ان حصلوا عليها حتى يجدوا أنفسهم وربما ضد ارادتهم قد اصبحوا شياطين« (5). اذا كان من اللازم مساءلة العقل بغية تحريره من الضرر الذي سفك هيبته فيجب ان ننتفض على كل من يتلمس الحرية بطرق هي غير طرقها: القوة او العنف المادي والرمزي الممارس من قبل العولمة ككوكبة رأسمالية تجسّم نظاما كليانيا مستوحى من صورة »الدولة التنين« لدى هوبز. ولكن كيف إنفك هذا الارتباط بين الذات وفعلها الى الحدّ الذي لا تفقه فيه ما نصنع؟ على حد قول »بول فاليري«. نحتاج هنا ان ننظر الى العولمة عن كثب لمعاينة ملامح هذه الصورة المفجعة التي تنتهك حرمة الانسان. هناك مجاز أورده »هانز بيتر مارتين« في مؤلفه »فخ العولمة الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية« بما هي فيه بين العولمة الطاعون الذي يشتهي سحق العالم. ولو أردنا أن نمضي من مستوى الظاهر (الرمز) الى الباطن (الدلالة) لقلنا أن منبت المماثلة هو ذاك الحد »التجنيسي« الذي ينخر العولمة للكل عبر الجزء (أمركة العالم). وهذا معلوم في طيات التسمية نفسها. فلفظ العولمة مستوحى من عبارة العالم، وإلا فبما نفسر التحذير الذي أطلقه سمير أمين من مغبة الخلط بين العالمي والعولمي؟ ولأننا نوقن ان الفخ الايديولوجي يتربص بكل من يتحدى العولمة كخيار سياسي او اقتصادي... فإننا نهيم بالمنازلة على صعيد ما هو ثقافي. واذ نمضي في هذا الطريق ليس مخافة من مجابهة التهم التي قد تحاك ضدّنا بقدر حرصنا على مجانيّة سجال يفتتن به البعض قد يفسد علينا ما نعلنه من حياد يرفض سطوة التحزّب الذي تفشّى في أطرنا النقابيّة (وهو الموضوع الاساسي الذي لازنا نهيئ له شروط امكان المراجعة والنظر). ❊ قائمة المراجع: (1) فوكو: الكلمات والاشياء ترجمة مطاع الصفدي، مركز الانماء القومي. (2) الغزالي: معيار العلم في المنطق. (3) أولمو: التفكير العلمي الحديث، ص 253. (4) مانويل دوديكي: العقل وأوثانه، ص 62.