وكتبت صحيفة «لوموند» الفرنسية في عددها الصادر بتاريخ 2 فيفري 1978 مقالا أمضاه مبعوثها الخاص جاء به: (في مجلس النوّاب: النوّاب الدستوريون يندّدون بقادة المركزية النقابية، في لحظات معدودة إندفع مئات من المناضلين الدستوريين الذين وقع جلبهم للغرض داخل الأماكن المخصّصة للعموم بقصر باردو مقرّ مجلس النوّاب وذلك في اللحظة الذي دخل فيها الوزير الأوّل الهادي نويرة لإلقاء خطاب به، وكانوا يصيحون يحيا بورقيبة يحيا المجاهد الأكبر وفي اللحظة ذاتها وقف نوّاب الأمّة وحوالي العشرين وزير الموجودين لينشدوا نشيد الثورة (نموت نموت، ويحيا الوطن) واستمرّت خطابات النوّاب والوزير الأوّل لتمتدّ طيلة أربع ساعات كاملة بقيادة الإتحاد في الجلسة الرسميّة التي خصّصها مجلس النوّاب يوم 31 جانفي، وقد أطلق عليهم النوّاب الدستوريون وصف (المرتزقة) و(المرتدّين) والمرتكبين للمؤامرة الدنيئة ضدّ الوطن ولم ينقص شيء في هذا الإجتماع ممّا جرت عليه العادة في هاته (الإجتماعات البوريبية) لا حماس الفرق المكلّفة بالتصفيق ولا التذكير بالمذهب البوريبي وشجاعة الآباء المؤسسين الحبيب بوريبة وفرحات حشاد ولم تنقص لا الآيات القرآنية ولا حمد الآله الذي سمح للنظام بالتغلّب على هاته المحنة الجديدة)، ويقول مبعوث الجريدة (ومع ذلك فإنّه لاشيء من ذلك أمكن أن يمنع الملاحظين الحاضرين من الشعور ببعض الضيق إزاء هاته الوحدة الكاملة في الموقف بين الحاضرين وبعد أن استعرض الهادي نويرة تاريخ الأزمة بين السلطة والإتحاد العام التونسي للشغل والتي إنتهت بالأحداث الدامية التي شهدتها البلاد يوم 26 جانفي قال (عن الأحداث التي مرّت بها البلاد لمن أعظم الأخطار التي كان يمكن أن تداهم تونس وتهدّد كيانها كدولة وأمّة، إن المتسبّبين في هذه الفاجعة لم يكونوا ليقفوا عند حدّ فلم يكن الإعلان عن الإضراب العام الإنذاري الاّ إيذانا لدخول البلاد في عهد فوضوي يجعل التونسيين ينصاعون إلى أي حكم يعيد لهم الأمن ولو كان على حساب مكاسب الأمّة). ثمّ قال الهادي نويرة: (إنّ محاكم الحق العام سيكون لها الفصل في هذه القضيّة لكن بعض النوّاب طالبوا بإحالتهم على محكمة أمن الدولة). وتقول الصحيفة: (وقام الهادي نويرة بالتنديد بالمتنبئين الذين تنبؤوا لتونس بمصير يشبه مصير لبنان وذلك في إشارة من الهادي نويرة إلى محمد المصمودي. وقال نويرة يجب علينا العودة إلى المبادئ النقابية الأصيلة وإرساء دعائم هيكلة الإتحاد على قواعد سليمة). وتقول صحيفة «لوموند» (لقد كان واضحا من خطاب نويرة أنّ الحكومة لن تقبل أن يعود الإتحاد كما كان عليه في الأشهر الماضية منافسا للحزب أو أن يناوئ النظام إذ أنّ بروز الإتحاد كقوّة معارضة قد أدخلت على الحياة السياسية إضطرابا جوهريّا من شأنه أن يهدّد النظام الذي أرساه بوريبة ففي ذهن هذا الأخير فإنّ المنظمة الشغيلة لا يمكن إلاّ أن تكون الفرع النقابي للحزب الواحد ومنذ أن بدأ قادة المنظمة يعملون على نحو يمكن المركزية النقابية من القيام بدور منظمة موازية للحزب أو تأمل أن تتخطّاه. فإنّ المواجهة أصبحت متأكّدة إذ أنّ النظام البوريبي لم يقبل مطلقا قيام معارضة عمّالية وهذا هو المعنى العميق للسياسة التعاقدية أساس سياسة الهادي نويرة وهذا ما أكّد عليه التيجاني عبيد في كلمته إذ قال بأنّه لا تعارض بين المسؤولية الحزبية والمسؤولية النقابية، والحكومة ربّما حصلت على راحة وقتية بتحطيمها لقيادة الإتحاد ولكن عليها أن تجد حلولا للمشاكل الأساسية، التفاوت الإجتماعي وعدم المساواة والبطالة وتهميش الشباب وهي المشاكل التي كانت باعثة للأزمة والتي لم يتحدّث عنها الهادي نويرة). وإنتهى كلام صحيفة «لوموند». وبعد بضعة أيّام من يوم الخميس الأسود صدرت لائحة أمضاها جمع كبير منهم رجال الثقافة والفكر ونشرتها جريدة «الرأي» بعددها الصادر بتاريخ 9 فيفري 1978 وقد وصل عدد الممضين لهاته اللائحة 986 شخصا وجاء بها (انّ عمليات القمع التي لم يسبق لها مثيل واللجوء إلى استعمال الجيش وفرض حالة الطوارئ في البلاد تجعل المواطنين يسلبون من أبسط الحريّات ويقفون في خشوع ترحّما على أرواح جميع الضحايا ويعتبرون أنّ مسؤولية هذه الحوداث الخطيرة يتحمّلها أولئك الذين أرادوا وضع حدّ لجميع الوسائل لإستقلاليّة الإتحاد العام التونسي للشغل ولكلّ إنفتاح على الديمقراطية في البلاد وعلى هذا الأساس يطالبون بإطلاق سراح النقابيين الموقوفين ووضع حدّ لحملة التّرهيب الموجهة ضدّ المناضلين النقابيين ورفع حالة الطوارئ وإصدار عفو تشريعي عام وإحترام الحريات النقابية وجميع الحريات السياسية التي أقرّها الدستور وضمنتها الإتفاقيات الدولية التي انخرطت فيها البلاد. وكانت نقابة التعليم العالي هي أوّل صوت يرتفع بعد يوم الخميس الأسود لإعلان تضامنها مع القيادة الشرعية السجينة. وانطلقت بدءا من ذلك حركة تضامنية واسعة لم تشهد البلاد مثيلا لها بالداخل والخارج. وكان لجريدة «الرأي» الدور الهام في إزالة حالة التعتيم على النضال النقابي ولم يقع ما وقع سنة 1965 والتي كانت فيه حالة التعتيم سائدة ولم يواكب أي إعلام ما كان يتمّ من نضالات وكانت جريدة «لوموند» الفرنسية هي التي تأتي ببعض الأخبار القليلة. وفي يوم 2 فيفري 1978 أعلن التيجاني عبيد أمينا عاما بالنيابة للإتحاد العام التونسي للشغل وتقرّر أن ينعقد مؤتمر خارق للعادة يوم 25 فيفري 1978. واتضح بعد ذلك وأنّه منذ يوم 23 جانفي وضع الجيش في حالة استنفار قصوى بداية من ذلك حتى وقع الإستنجاد به للمحافظة على الأمن عند إعلان حالة الطوارئ. وفي يوم 26 جانفي إلتهبت سوسة ولكن لمدّة أقصر وأقلّ خطورة فمنذ اليوم السابق كان مناضلو الإتحاد محتلّين لمقرّ الإتحاد الجهوي. وفي الحادية عشر تدخل الجيش وانتهى كلّ شيء في منتصف النهار، ولقد تمّ إيقاف جميع المسيّرين الجهويين للمنظمة وعددهم 132 وعلى رأس الموقوفين الكاتب العام للإتحاد الجهوي الأخ الحبيب بن عاشور وكان من ضمنهم المنصف قمر والصادق قديسة وعلي المحضي وعبد المجيد الصحراوي. وكتبت جريدة «لوموند» بتاريخ 3 فيفري 1978 مقالا جاء فيه (بعد اضرابات 26 جانفي تمّت مئات الإعتقالات وآخر حصيلة للأموات كانت حسب آخر إحصاء رسمي 46 ميّتا وكان عدد الموقوفين قد بلغ أربعمائة بينما المصادر المقرّبة من الحكومة تقول وأنّ عدد الموقوفين قد بلغ الألف منهم ثمانمائة في تونس العاصمة تقريبا وبقيّة الإيقافات الأخرى تمّت في سوسة وعدّة مدن أخرى. وانطلاقا من يوم الخميس الدامي انطلقت حركة تضامنية واسعة مع الموقوفين داخل البلاد وخارجها. فالحبيب عاشور علاوة على أنّه الأمين العام للإتحاد العام التونسي للشغل وهو أعرق منظمة نقابية في افريقيا كان يشغل في نفس الوقت خطّة نائب رئيس «السيزل». وقد ذكرت جريدة «لوموند» في عددها الصادر بتاريخ 3 فيفري 1978 أنّ الحزب الإشتراكي الفرنسي (حزب ميتران) قد أصدر بلاغا بتاريخ غرّة فيفري حول موضوع تونس جاء فيه بأنّه يجب قول الحقيقة حول واقع الأحداث بتونس وعدد الضحايا والمسؤولين الحقيقيين عنها ويعتبر من الضروري أن يقع حالا اطلاق سراح الحبيب عاشور ورفاقه وان يتمّ إصدار عفو شامل وأن ينبعث بين كلّ القوى الحيّة بالبلاد الحوار الديمقراطي الضروري والذي ينشده الرأي العام التونسي إزاء المشاكل الخطيرة التي تواجهها البلاد. كما أخبرت «لوموند» أنّ اجتماعا هاما انعقد في ستوكهولم جمع قادة المركزيات النقابية الكبرى لبلدان الشمال الخمسة، وفي هذا الإجتماع وقع التنديد بالترهيب المستعمل ضدّ النقابات التونسية وفي بلاغ أصدروه عبّروا عن استنكارهم للوسائل العنيفة المستعملة من طرف السلطة التونسية ضدّ النقابات وطالبوا بإطلاق سراح جميع الموقوفين). وروى لي خليفة حواس صديق بوريبة والذي رافقه الى الشرق وصديق الحبيب عاشور في نفس الوقت أنّه (كان يوم 27 جانفي قد ذهب لمقابلة بوريبة فوجده في حالة طرب وسرور لإيقاف الحبيب عاشور وكان يصفّق فرحا ويقول: (أسمعت؟ الهادي نويرة وضع الحبيب عاشور في السجن). وكما سبق أن ذكرت فإنّ الحكومة قد أعلنت حالة الطوارئ بالبلاد بعد الظهر وأصبح وجوب الدخول للمنازل على الساعة الخامسة فأصبح الجيش هو المسيطر على الشوارع. ويوم 29 جانفي 1978 عقد أحمد المستيري ندوة صحفية قال فيها: (لابدّ من لجنة بحث نزيهة لضبط المسؤولية ليست لنا أدلّة ولا نتهّم أحدا) وكان صوت المستيري أوّل صوت يرتقع بعد يوم الخميس الأسود. وقد طالب منذ يوم الجمعة برفع حالة الطوارئ. وقد قال في ندوته الصحفية المذكورة: (انّ ما حدث من إخلال بالأمن العام مساء أيّام 24، 25 و26 جانفي كان من عمل شبّان تتراوح أعمارهم بين 15 و20 سنة كانوا هم القائمين الرئيسيين بأعمال العنف وأنّهم في معظمهم منتوج الضياع المدرسي. كما صرّح: (بأنّه لدينا شهادات متطابقة تقيم الدليل على أنّ مهرّجين اندسّوا في صفوف المتظاهرين ويقصد المليشيا الحزبية وهؤلاء هم كما يبدو محرّضون على الاستفزاز، ونلاحظ بالإضافة إلى ذلك أنّ القمع بالسلاح تمّت ممارسته بشيء من السهولة). وفي يوم 2 فيفري 78 حجزت جريدة (الرأي عددها السادس) بعد شهر ونصف من بروزها لأوّل مرّة لنشرها للمحة وجيزة عن هويّة بعض ضحايا يوم الخميس الأسود. وفي 6 فيفري أضرب الطلبة في عدد من الكليات احتجاجا على طرق التعسّف والقمع وتضامنا مع الطبقة الشغيلة وقد تواصل الإضراب رغم النداء التي توجّه به وزير التربية القومية ورغم التدابير المقرّرة ضدّ الطلبة المضربين من توقيف المنحة والطرد من المبيتات والمطاعم الجامعية. وبتاريخ 4 فيفري 78 كتبت لموند الفرنسية (إنّ الحبيب الشطي وزير الخارجية السابق الموجود حاليا بباريس والذي كان قد قدّم استقالته من الحكومة يوم 24 ديسمبر الفائت تضامنا مع الوزير المقال الطاهر بلخوجة قد صرّح لنا (إنّي أدين بكل شدّة أعمال العنف التي قام بها المتظاهرون كما أدين اعتداءاتهم على الأملاك العمومية والخاصة وأعمال النهب لكنّي غير مقتنع ولا أستطيع أن أقبل القول بأنّ المحافظة على النظام تستوجب استعمالا قويّا للسلاح وليست هاته هي المرّة الأولى التي نشاهد فيها في تونس مظاهرات تصل حدود التمرّد. ففي قصر هلالوسوسة وباجة وماطر حدثت اضطرابات ذات خطورة بالغة ومع ذلك أمكن إعادة الهدوء بدون إطلاق أيّة رصاص واحدة وبدون إراقة للدماء فلماذا حصل عكس ذلك يوم 26 جانفي، وبعد أن أشار إلى أنّ الإضراب ولو كان عاما هو ليس بمظاهرة وأنّ المتظاهرين لم يكونوا في غالبيتهم عمّالا ولكن كانوا شبّانا تتراوح أعمارهم بين ال 15 وال 20 سنة. وأنهي هاته الحلقة لأتابع تتابع الأحداث بعد يوم الخميس الأسود في الحلقة القادمة.