السيد ظافر ناجي كيف تقيّمون العمل الثقافي داخل الجامعة؟ يعسر الحديث عن عمل ثقافي داخل الجامعة لأنّها وفي نهاية الأمر جزء من مجتمع متحرّك ومتحوّل داخل التاريخ وفي الواقع ولابدّ في إعتقادي أن يكون هذا منطلق الحديث لأنّ طرح هذا السؤال والإجابة عنه تبدو كأنّها تستند إلى مرجع وكأنّنا نقارن الواقع الحالي سنوات خلت في مرحلة مختلفة عن المرحلة الحالية وهنا يطرح السؤال حول ما إذا كان هذا النموذج الذي نستند إليه صحيحا أم لا؟ ولماذا لم يتمكّن من الصمود والبقاء والإستمرار؟ وهو ما يفتح باب الحديث حول مسائل متشعّبة لأنّ هنالك ماهو خاص بتونس وماهو خاص بالوضع الدولي وماهو متعلّق بالجامعة التونسية. هل يعني كلامك أنّ هناك تباينا بين العمل الثقافي داخل الجامعة في الوقت الحاضر وبين العمل الثقافي الجامعي في فترة السبعينات ؟ منطقي جدّا أن يكون هناك تباين ففي كلّ فترة هناك رؤى وتصوّرات تسود ثمّ تأفل وتنتهي وتتحوّل وتتغيّر مع مرور الزمن وتحول الأبنية الإجتماعية والتشكيلات الاقتصادية والتطورات الفكرية والعلمية في العالم، ففي الستينات والسبعينات كان من المنطقي جدّا أن يكون النموذج اليساري هو المهيمن لذلك حينما نتحدّث عن الثقافة في الجامعة في تلك الفترة نلاحظ أنّها كانت ثقافة الأغنية الملتزمة وثقافة اليسار بمعناه الشامل ان شئنا من حيث الواقعية في الأدب وغيرها. وسيادة هذا النموذج الثقافي لم تكن خاصة بتونس بل هي مرتبطة بفترة فوران وغليان عالمي أفرز هذا النمط الفكري والإيديولوجي، والثقافة ليست معزولة عن الفكري والإديولوجي فمنطقي أن الخطاب اليساري كان رائجا في الجامعة ومنطقي أيضا بعد أربعة عقود من ذلك التاريخ أن تتحوّل الأمور وأن يصبح ذلك الواقع نموذجا تاريخيا أكثر من كونه معطى داخل الواقع وأن يكون تأثيره قليل ومحدود في الواقع الحالي. ولكن هل يبرّر هذا الضعف الفكري التراجع الثقافي حتى في مستوى الحراك؟ هناك جزءان للإجابة عن هذا السؤال يتعلّق بغياب تصوّر ثقافي حقيقي داخل الجامعة غير أنّ الإشكال يكمن في تحديد الفاعل الذي يفترض به تحديد هذا التصوّر وفي تصوّري فإنّ إلقاء كلّ المسؤولية على عاتق الدولة قد يضع استقلالية القرار الطلابي على المحك لذلك فأنا أفترض أنّ المسألة جدلية وتتمثّل في أن توفر الجامعة ومن ورائها وزارة التعليم العالي البنية التحتية لإستقبال العمل الثقافي، ومن حق الطلبة أن يضعوا تصوراتهم الثقافية. أمّا الجانب الثاني للإجابة فيكمن في اعتبار الجامعة جزءا من المجتمع ككل، إذ نجد أنّ ما تعيشه الجامعة يحدث خارجها فنحن الآن ننظّم ندوات فكرية كبرى نستقدم لها ضيوفا كبارا وتطرح مواضيع هامّة ونجد أنّ الحضور قليل ولا يتجاوز بعض الأشخاص فالوضعية إذن متشابكة وبها إشكال رمزي واعتباري لمسألة المثقف. فهذا المثقف الذي كان عنوانا ورمزا للطليعة الإجماعية فقد مكانه ليحلّ محلّه رجل الأعمال وصاحب المال. ألا ترى في هذا الصدد أنّ من واجب المثقف مساندة الطلبة في وضع تصور ثقافي داخل الجامعة؟ نلاحظ بالنظر إلى الواقع التونسي والعربي والعالمي أنّ غياب الإديولوجيا غيب المشاريع الثقافية فأصبحنا نجد المثقف التقني ولسنا أمام مشروع فكري يراكمه ويعمل لأجله، وأتحدّث خصوصا في الجانب الإبداعي فأصبحنا نرى مثقفين ينتقلون من تصوّر إلى آخر بل وقد تجتمع أحيانا عدّة تصورات في عمل واحد دون أن يشعر صاحبه بذلك، فهناك إذن انسداد فكري وإيديولوجي دفع نحو البحث عن الفن بشكل مطلق ولم نعد أمام مشاريع حقيقيّة لأنّ المشروع الثقافي يفترض أن يكون فنيا وحضاريا وسياسيا واجتماعيا لذلك فإنّ ما نشاهده اليوم هومجرد تجارب أو قوالب. ولكن هناك من يرى ضرورة الفصل بين السياسة والفن كي يكون الفن مبدعا وحرّا وطلقيا؟ وهذه إشاعة من قبيل تسميم الرأي العام لأنّه لا وجود لعمل أي كان خارج الفكر والسياسة وخصوصا حين نتحدّث عن الفن نجد أنّ نظرية »الفن للفن « مفروغ منها فحتى إن عبّر الفن عن فراغ إيديولوجي فهو إديولوجيا وكأنّ بأصحاب هذا الرأي يحاولون تمرير بعض ما حاول بعض المفكرين والسياسيين تمريره من نهاية عصر الإيديولوجيا. وماذا عن الفكر الليبرالي أليس إيديولوجيا، لماذا يتواصل هو في حين تنتفي التصورات الأخرى؟ وفي هذا السياق أنا مع بدائل انسانيّة تنبع من الواقع في تحوّله، يعني أنّي لست دغمائيا لا أدعو إلى انساق مغلقة ففي هذه التحولات التي تشهدها يفترض أن ننتج خطابا جديدا يلائم ويجيب عن أسئلة المرحلة. ماهي الحلول والتصورات التي ترونها لإعادة بناء حراك ثقافي داخل الجامعة والبلاد؟ المسألة لم تعد بيد أي طرف أو شخص فهناك وضع دولي متسّم بغلبة الأقمار الصناعية والتلفزات والأنترنات وهذا الكم الهائل من المرئي الذي نشهده كلّ يوم وأصبح مصدر جديد للمعرفةلذلك فإنّ العودة إلى الخلف قد تبدو مسألة فيها شيء من الماضوية والحنين للقديم لكن مع ذلك لاشيء يتأسّس من لاشيء ويفترض إذا أن نبدأ من وضع الصفر رغم أنّ ليس صفرا وهو وضع الطفولة فحين ننشر قيم الثقافة الحقيقية منذ رياض الأطفال والمدرسة فسنخلق بديلا بعد عشرين سنة فالمسألة ليست لمسة عصا سحريّة ولا تقام في يوم وليلة بل هي مسألة خيارات سياسية واجتماعية كبرى تكون إستراتيجية لا تترقّب أكلها في المنظور العاجل وقد لا نشهدها نحن والمهم أن لا نقف مع التيار السائد وأن نتفاعل معه ايجابيا. ولي في هذا الصدد مثال واضح فحين تقدّم للحائك قطعة قماش وتطلب منه تفصيلها وفق لجسدك فهذا ممكن أمّا أن تقدّم له قطعة لباس محاكة مسبقا فإنّ نجاحه في صناعة ما يلائم جسدك ممكن ولكن لا ننتظر منه الإبداع فقد تصبح قطعة اللباس مضحكة وسخيفة. فالبناء يكون منذ الأساس ولكن سير الأمور يجب أن يكون طبيعيا ودون تدخل.