نقتطف من كتاب المرحوم الطاهر الشريعة هذا النص حول النقد السينمائي الذي يحلّل فيه موقفا واضحا من النقد في تونس صدر بكتابه ونصيبي من الرفض عن دار البستان للنشر. س: وكيف ترى النقد في تونس؟ نقد الأفلام مثلا ونقد الآثار الأدبيّة؟ ج: أي نقد؟ أكاد اسألك بدوري: هل قرأت أنت نقدا وهل تعرف عندنا نقادا تثق بنقدهم وترضاه... للنّزاهة أذكّرك بأنّي لاأطالع ما يكفي من الآثار الأدبية وأضيف اني قلّت مشاهدتي للأفلام أيضا لنفس الأسباب، المرض والكسل لهذا يحقّ لي أن أرعوي عن كلامي الذي سبق فالعادة أنه متى كثرت الآثار الفنية ادبا كانت أو مسرحا أو سينما أو غيرها فإنّ النقاد (والنقد أيضا) يتكاثرون بنسبة من النسب واذن اتراجع عن سؤالي المتسرّع وأقول إنّي لست أدري الذي ادريه في النقد الأدبي التونسي هو ان لنا في تونس بعض النقاد الجادين المجتهدين والمحترمين جدّا... مثل المنجي الشملي وتوفيق بكّار ومحمود طرشونة وآدم فتحي وأعتقد أنّه لابد أن يكونوا ضعف هذا العدد وعلى أيّة حال فغيري أولى منّي باحصائهم وتقييم اجتهاداتهم وامّا الأفلام السينمائية التونسية، التي أظنّ أنّ أربعة منها على الأقل لم يتيسّر لي مشاهدتها بعد، فإنّ لي بشأنها »قصيصة« عابرة قد تصلح جوابًا عن سؤالك: أنا معجب جدّا بفيلم »السفراء« للناصر الكتاري ومكّنني من قراءة سيناريو شريطه الثاني »كن صديقي«! ثمّ شاهدت الفيلم في »نسخة عمل« في باريس ومرّة ثانية مع جمع كبير من الصحافيين في باريس أيضا... فاعجبني أيضا وارتحت كثيرا لما جاء فيه من اضافات ابداعيّة سينمائية صرفة الابتكارات في الاخراج: ثراء الديكور وتصريفات إضاءته البارعة وتحريك الممثلين تحريكا له معنى وله تأثير بليغ ثمّ في تركيبه، بشكل أوضح جدّا تركيبا»مؤديا إلى الغرض« ومنطقيّا صوابا (ولاسيما في ثلثي مدّته الأخيرة) وموحيا بالحركة والنشاط... وذلك مقارنة بفيلمه »السفراء«، الذي يختلف اختلافا كاملا عن »حلو ومر«... ومقارنة بأفلام تونسية أخرى وهممت بنقد هذا الفيلم الثاني، مغالبا كسلي الثقيل وطلبت من الناصر الكتاري تمكيني ممّا تجمّع لديه من الكتابات النقدية التونسية التي نشرت عن فيلمه الأخير وفعل، بعد مدّة طويلة، وإذا بي أقرأ في آن واحد، أكثر من عشرين مقالة! وبحق! هالني ما قرأته في... نصفها على الأقل بين »الخروج عن الموضوع« تماما (وفي جرأة أصفها بالوقاحة أحيانا).. والكلام عن المجتمع التونسي والأخلاق التونسية والتقاليد التونسية ولم أعد أذكر ماذا!.. ولا »كليمة« واحدة فيها »محاولة قراءة« للشريط ذاته! ولا كلمة واحدة تروم ابداء رأي شخصي في الفيلم أو تجتهد اجتهادا مستقيما في تنبيه المشاهد لعلاته الفنية باعتباره أثرا فنّيا قائم الذات ونواحي اختلاله أو فشله فيلمًا سينمائيّا لا ظاهرةً اجتماعيّة تعاب وتمدح حسب الأهواء! واللّه أنت لا تفهم حتى عمّا يتحدّث الناقد! وللأسف الأشد... فإنّ الأكثر عقمًا وحمقا ما قرأته طوال عمري كان لناقدة! وياحسرتي على تفضيلي المطلق والدائم للمرأة على الرجل!.. وقد نشر بصحيفة »ناطقة بالفرنسيّة«... أقول لك الحق: أنا تساءلت يومئذ وإلى اليوم لا أدري أي الاثنين بدا لي »الأكثر حمقًا«: تلك البلهاء التي لا تعرف حتى الكتابة »الفرنسية الابتدائية« (سنة أولى أساسي وليغفر لي هذا التشبيه نجباء تلاميذ السنة الأولى أساسي) أم هي الصحيفة التي آوت هذيانها السفية... ورضيته طعاما ثقافيا واعلاميا جديرا بقرائها. ولكن دعنا من هذا كلّه فالسينما التونسية بخير ومستقبلها أفضل ان شاء اللّه وجلّ أفلامها خير من هذا... »النقد (ان كان نقدا) ونهاية »القصيصة« اني تردّدت كثيرا بعد هذه القراءة المتخمة والغريبة المطعم... ثمّ واصلت كتابة محاولتي لنقد الفيلم نقدا يقارب على الأقل ما أنا مؤمن به ومقتنع تماما من »مكانة هذا الفيلم بين الأفلام السينمائية المعاصرة، عربية كانت أو أمريكية أو »أوروبيّة / أمريكيّة« (Euro-Americaine) أو حتى »باطا قونية« وانتهيت في اجتهادي إلى »مقالة طويلة« كسلت عن »العمل« الذي تستوجبه حتى تليق شيئا محترما من اللياقة... بالمكانة التي لهذا الفيلم »حلو ومرّ« وبالنّاصر الكتاري، المخرج التونسي المقتدر وبالقرّاء أيضا وأيضا... فهم مهما كانوا ومهما كانت علاقتهم بأفلام السينما ودرجة قراءتهم لها... من هذا »الجمهور« الذي يستصغر ويحتقر شأنه لدى مثل أولئك »النقاد« (قالوا!) والذي »لم ينجح لديه« هذا الفيلم أو تلك المسرحية... إلى غير ذلك واجتمع كسلي ووقع هذه »القراءات / الاكتشافات« عليّ فاحجمت عن اتمام العمل ونحّيت عن خاطري فكرة نشر شيء من مقالتي. س: خسارة... ولكنّك أدرى بما تريد أو لا تريد ولكن انطباعك هذا عن النقد في تونس، وان أرجعته لهذه التجربة الخاصة، يبدو قاسيا... وهو يجرّني إلى سؤالك عن أمرين متصلين بالسينما التونسية وجمهورها والمثقفين منه أيضا ثمّ بالطاهر الشريعة ورأيه في النقد اطلاقا، فلعك تعلم أنه كثيرا ما يقال ويكتب أنّ الأفلام التونسية »لا تعكس بالشكل الواضح والصحيح المقنع واقع المجتمع التونسي« فما رأيك أنت في هذه المسألة أوّلا؟ ج: المسألة موضوعة بالفعل ويخوض فيها المثقفون وغيرهم ومشاهدو الأفلام خاصة ولا أراها شخصيا تتجاوز بساطة الفرق الطبيعي بين ما تعرفه أنت فتتعرّف عليه من أوّل وهلة ويصلك بسهولة فتلج بيسر تفاصيله واشاراته وايماءاته وغمزاته... وكلّها من تجربتك، وبين ماهو أبعد عنك، قليلا أو كثيرا، وأضعف صلة بتجربتك ومعرفتك ومألوفك واذن من الطبيعي جدّا أنّك سوف تأنس إلى الأوّل وقد تحكم عليه، متى كان المجال للحكم للنقد ان شئت أحكاما ايجابيّة أو أقلّ سلبية أو أكثر مجاملة.. من أحكامه على الثانية هي ضرب من نسبية »الموضوعية الجماعيّة« و»عدم هذه الموضوعيّة الجماعية« في كل حكم أو رأي أو »نقد« بشري. وان شئت جئتك بمثل على ذلك، كما يقول صاحب »كليلة ودمنة«. عندما »كنت بالمدرسة الصادقية، في الأربعينيات، كنّا ومثلنا زملاؤنا طلبة جامع الزيتونة أو تلاميذ المدرسة العلوية. نقسّم أو نصنّف أنفسنا، رغم متانة الصلة والعشرة، إلى صنفين حسب قرب منشئنا أو بعده عن »تونس العاصمة« (وضواحيها القريبة بين منوبة والمرسى وحمام الأنف: صنف »البَلْدية«، أهل العاصمة وضواحيها بمفهوم آذان الصلاة و»الآفاقيين« غيرهم ممن جاؤوا من الآفاق البعيدة من أنحاء »الايالة« الواسعة أي من قرنبالية إلى جربة و»الجريد« أو من طبربة إلى عين دراهم... ولا أذكر أنّا كنّا نعيش هذا التصنيف، الواقعي جدّا، بحدّة أو تشنّج أو ضيق يذكر. »يستغربه« الآفاقي »وقد ينكره« لأنه لا يرى فيه تونسه هو »وكذلك« تصرف الآفاقي »يستغربه وينكره« »البَلْدِي« وكأن لسان حاله يتساءل: »من أين جاء ها السخطة!« والحقيقة أننا كنّا نتعابث بهذا »الفرق الكبير« في رأي هؤلاء ورأي أولئك سواء أكثر من التنافر بسببه ولا الخصام من أجله. وهكذا الناس في اعتقادي حيثما كانوا في كلّ زمن وبالنسبة إلى الكل أحكامهم أو آرائهم أيّا كان موضوعها ومناسبتها هم يتعاملون مع غيرهم من الناس وكذلك مع الأشياء والأحداث وكلّ شيء حسب »المسافة البسيكولوجيّة والثقافية التي تباعد أو تقارب بينهم وبين من أو ما استوجب حكم أو ابداء رأيهم وليس فيما بين التونسيين وسينمائهم سوى تلك »العلاقات« المختلفة والمتنوعة والطبيعية جدّا... فلا تشذّ سينما في الدنيا عن هذه العلاقات ذاتها مع المجتمع الذي ينجم عنه، كالنبتة من تربتها أقرب التصاقا وأكثر أمانة من السينما.