كتب محمود درويش قبل أن يعلن الغياب قصيدة حول الاحداث التي شهدتها غزّة والمتمثلة في الصدامات التي وقعت بين فتح وحماس قال: »هل كان علينا أن نسقط من علو شاهق.. ونرى دمنا على أيدينا، لندرك انّنا لسنا ملائكة!!« نستحظر هذا البيت ونحن نتابع الاحداث التي تعتمل في ربوعنا وبين ظهرانينا منذ ان اقدم الشاب محمد البوعزيزي على اضرام النار في جسده احتجاجا أو يأسا من وضع اجتماعي رأى انهّ بات لا يطاق. اليوم تتدحر كرة النار من سيدي بوزيد لتأتي على سباسب القصرين وتالة ولتلمع شراراتها في كل اطراف البلاد لتصل إلى ضواحي العاصمة. ورغم هذا السعير المحرق وارتفاع عدد الشهداء واستشراء حالة من الارتباك والوجوم التي خيمت على الوجوه فان باب الحوار بقي إلى حدود اللحظة مواربا ان لم نقل مغلقا وكأن الشعار اليوم صار لا صوت يعلو فوق صوت الرصاص يحاور المتظاهرين ويؤجج الغضب مع كل قطرة دم جديدة من أجساد ابنائنا. الحكمة تستدعي اليوم وقف هذا النزيف واخماد كرة النار المتدحرجة التي صارت تهدد باحراق الأخضر واليابس وساعتها لات ساعة مندم حين لا يجد المتحاورون على طاولة الحوار سوى الخسائر ليقتسموها. الحكمة تستدعي اليوم بالذات تجاوز منطق المكابرة والمزايدة والامعان في رش الملح على الجرح الذي صارت آلامه تخز كل الضمائر الحية في هذا الوطن ألم يحن الوقت لنعترف بصريح العبارة اننا لسنا ملائكة ولا شياطين وبأن وطننا ليس بالجنّة ولا بالجحيم وانما هو ارض عليها بشر يأملون ويألمون يفرحون ويحزنون وقد يضيق بهم الحال وتستبدّ بهم المشكلات فينفثون بعضا من غيضهم وحنقهم ويرفعون أصواتهم معلنين خيارات يريدونها علامات يستهدون بها في طريقهم الى المستقبل كما يرونه مهما كانت مطالبهم حالمة او لا عقلانية في نظرالبعض. التنمية العادلة والحقّ في الشغل وحفظ كرامة المواطن هذه هي المطالب التي رفعها الشهيد محمد البوعزيزي ضمنا وترجمها اهالي سيدي بوزيد علنا ولكن حين قوبلت الحناجر والإرادة الشبابية المستنفرة بقنابل الغاز المسيلة للسخط وبالرصاص المميت تولدت شعارات اخرى كانت حبيسة العقل الباطن، حق التظاهر السلمي وحق التعبير ورفض المحسوبية والفساد الاداري إلى هذا الحد كان من الممكن تدارك الامر بقرار سياسي جريء يستقرئ كل الاحتمالات ويتنبه الى ان الفورات الشعبية والهبّات الاجتماعية في تونس لا تنشأ من فراغ وبأن أسبابها مهما بدت بسيطة (كإقدام شباب على إحراق نفسه) لابد ان تكون لها ردود فعل ارتدادية تهز القاع المجتمعي وتخرج للسطح ما كان كامنا فيه خاصة اذا ما كانت الارقام الباردة التي يُكتفى بتخزينها في ذاكرة الحواسيب الرسمية تمثل حياة جيل من فئة عمرية حساسة تتأهب لخوض غمار تجربة حياتية واجتماعية ولكنها لا تجد منفذا لذلك يسعفها بالامل في تدارك سنوات العمر التي عمّرها الفراغ. قد يكون مسموحا لنا بأن نتباهى بأن نسب التمدرس في بلادنا وصلت معدلات قياسية وبأن عدد الخريجين قد وصل الالاف المؤلفة لو كنّا أعددنا لهذه الافواج من العقول النظرة الشبابية التي تتقد حماسة بدائل ومشاريع تخفف عنهم عبء الانتظار لسنوات قد طول لتصل السنوات العشر أو يزيد من الانتظار والاغتراب الذي لا شك انه يؤدي بأي انسان أي انسان الى حالة من اليأس والاحباط والقنوط تستوي معها الحياة بالموت فما بالك اذا ما كان هذا الانسان قد درّب في جامعاتنا على التحليل النقدي والتفكير العلمي لا على التواكل والتفكير القدري و»انتظار النصيب«. ماذا لو استمعت وزارة التعليم الى هواجس عشرات الشباب من العاطلين الذين ظلّوا لسنوات يطرقون بابها يطالبون بمنظمة او جمعية أو إطار للعاطلين؟ ألم يكن الإستماع إليهم مجديا لتكون حصيلة جلسات الاستماع رصدا لمقترحات هذه الفئة حول مشكلات لا يمكن لغيرهم ان يعبّر عنها بكل صدق مما يساهم في توضيح الصورة بتفاصيلها الاجتماعية او النفسية أمام أصحاب القرار؟ ماذا لو استمعت سلطة القرار لملاحظات النقابيين الذين لطالما نبهوا من خلالها الى المخاطر المحدقة بالنسيج الاجتماعي الوطني نتيجة التفاوت في التنمية بين الجهات؟ ماذا لو خصصت سلطة الاشراف ممثلة في الوزارات جزءا من وقتها لقراءة الدراسات التي أعدها الاتحاد العام التونسي للشغل حول التنمية في الجهات الداخلية.. الجهات نفسها التي شهدت الاحتجاجات الاجتماعية، سيدي بوزيد، القصرين، الكاف على الاخصّ وغيرها من بؤر البطالة؟ ألم يكن ذلك ليجنبنا كل ما وقع وما قد يقع في المستقبل؟ ماذا لو فسح المجال للقوى السياسية كي تدلي بدلوها في قضايا التنمية والتشغيل ونقل نبض الشارع؟ ألم يكن من الاجدى لو كانت لنا شبكة حقيقية من مؤسسات المجتمع المدني ومراكز الدراسات العلمية المستقلة الجادة في علم النفس والاجتماع تقوم بدراسات ميدانية حول الشرائح الاجتماعية الشابة وتساهم في تأطيرها ثقافيا وسياسيا وفكريا لتغرس فيها روح المواطنة والسلوك المدني الحق والوعي الموجب والمتفائل؟ كم من الاسئلة تقفز الى الذهن ونحن اليوم نقف امام حقيقة لم نكن نتوقعها في أكثر كوابيسنا سوداوية ورعبا.. كثير من الاسئلة ونقاط الاستفهام تبقى تبحث عن اجابات لا شك في انها لن تكون سهلة المنال اذا ما أردنا لها ان تكون جسرا لصورتنا التي تشظت وصارت غائمة إلى أبعد الحدود، بل انها تتطلب منا ان ندير الكلام ونشرع كل النوافذ لنستنشق هواء جديدا ونبصر شمسا ساطعة تكسر أوهام مرآتنا المحدبة التي تناسلت عنها كل المآسي التي لطخت صورتنا. ساعتها فقط بإمكاننا أن نغسل أيدينا ونقبل الغزاء فينا ونستأنف الرحلة مرّة أخرى على هدي حادينا درويش ننشد معه »على هذه الارض ما يستحق الحياة«.