أثبت الشعب التونسي عبر ثورة 14 جانفي أنّه يزخر بطاقات إبداعية غير محدودة فاجأت العالم كلّه وأطاحت بوسائلها المبتكرة بالدكتاتور بن علي وعصابات الفاسدين والمتزلّفين وأكلة الفتات التي جعلها قاعدة لحكمه الاستبدادي البوليسي المافيوي. فقد تلاحمت في خضمّ هذه الثورة أطياف من الفاعلين السياسيين الذين كان الجميع يجهل أو يتجاهل وجودهم وفاعليتهم، من شباب معطّل ومهمّش ومن تلامذة وطلبة تعاملوا بحذق وأداء عال مع الأدوات الاتصالية والابلاغية والاحتجاجية الجديدة ومن نقابيين قاعديين نزهاء وحقوقيين ومثّقفين ومبدعين واعلاميين من كلّ المشارب والرؤى. لكن هذه الثورة بمثل ما فاجأت الديكتاتورية (التي لم تقرأ لهذا الشعب ولقدراته على المقاومة أدنى حساب) و»شركاءها« في الشرق والغرب ممّن غضّوا الطرف عن معاناة التونسيين الرهيبة بفعل اعتبارات اقتصادية وسياسيوية ضيّقة ومحدودة الأفق، فاجأت أيضا الفاعلين السياسيين والاجتماعيين »التقليديين« من أحزاب ومنظمات واتحادات وجمعيات والذين من فرّط ما تعاملوا مع السلطة الاستبدادية بالمساندة أو حتى بمختلف أشكال ودرجات الاحتجاج السلمي والاصلاحي قد استنسخوا (ضمن حدود متفاوتة) كيفيات اشتغالها وطرق ادارتها العلاقات بين مكوّناتها. فالطابع الهرمي والتراتبي والممركز هو الذي ميّز دوما هذه التنظيمات. والطابع الأبوي المشخصن هو الذي طغى عليها بحيث لم تكن في الغالب الأعم سوى إعادة انتاج (وإن كان ذلك على نطاق ضيّق) للسلطة القائمة وللحزب شبه الأوحد الذي كان يهيمن عليها تحت قيادة الزعيم الملهم »والقائد الفذ«. والحال أنّ الثورة التونسية قد انبثقت وامتدّت على نحو أفقي مكّنها من تَسْفِيةِ حسابات السلطة القمعية وينبغي أن يمكّنها في المستقبل من حماية منجزاتها الكبرى من مخاطر الثورة المضادة التي تتربّص بها في كل لحظة على أيدي المتسابقين الى قطف ثمارها المباركة التي دفع الشهداء أرواحهم في سبيلها. من ثمّة جاءت ضرورة الإنصات العميق والمتروّي إلى معاني وقيم هذه الثورة على نحو يرتقي بالفعل السياسي والاجتماعي والثقافي إلى هذا الأفق الجديد الذي فتحت عليه القلوب والعقول وعلى نحو يستجيب لتطلّعات الجموع التي أنجزتها ومازالت تنجزها يوميا. وعليه فإنّنا نقترح الأفكار التالية مدخلا لممارسة سياسية ثورية جديدة: أوّلا: القطع الموجب والفاعل مع ذلك الشكل التقليدي من الفعل على الأصعدة كُلّها. ثانيا: الانفتاح الكامل على هذه الطاقات الثريّة التي ظلّت حتى الآن مجهولة أو متجاهلة وهو ما يفسّر (جزئيا على الأقل) عزوفها شبه الكلّي عن العمل السياسي. ثالثا: إيداع شكل جديد من الالتقاء والتنظيم يكون بدوره أفقيا أي منفتحا باستمرار على كل اثراء سياسي وثقافي واجتماعي ويمتد إلى كلّ الشرائح والطاقات المبدعة مستفيدا من كل ما رامته الحركاته النضالية التقدّمية في البلاد بمختلف أجيالها وقاطعا مع الانساق السلطوية المتحكّمة في معظم العقول والتنظيمات التقليدية ذات البرامج السياسيوية الآنية الرامية في الغالب إلى المحاصصة واقتسام الغنائم. رابعا: المضي بهذه الرؤية نحو التقاءات موجبة وفعّالة مع كل الجموع المناضلة أفقيا في كلّ أنحاء العالم بحيث يتمّ إثراؤها بكل ما قدّمته وتقدّمه في مناهضة العولمة المتوحّشة وفي النضالات الثقافية والنسوية والايكولوجية على نحو يصل تجربة الثورة التونسية بالإرث الثوري الإنساني بمختلف تعبيراته ويجعلها تسهم عبر تجربتها الفريدة في الحراك السياسي الابداعي الكوني.