إن الثورة التي فجرها شباب تونس كانت تتويجا لتراكم نضالات أجيال متلاحقة منذ نصف قرن ففي اللحظات التي علمت فيها بفرار الطاغية زين العابدين بن علي مر أمام مخيلتي شريط المعاناة والعذابات التي قاسيت منها طيلة عقود والتي تقاسمتها مع مختلف الأجيال والتوجهات. وقد اغرورقت عيناي تأثرا عندما تذكرت في تلك اللحظات عديد المناضلين الذين ساهموا بعرقهم ودمائهم في النضال ولم يسعفهم الحظ ليعيشوا لحظة الانتصار منهم الأخوان العزيزان هشام قريبع ومحمد الشرفي اللذان ساهما بقسط وفير في إنضاج المسار الديمقراطي وترسيخ قيم الحرية وحقوق الانسان وكذلك »سارج عدّة« الذي عمل بكل جد على ترسيخ قيم التسامح، فكلاهما قد غادر عالمنا ولكنهما مع غيرهما حاضرون في قلوبنا وعقولنا. وقد عاشت تونس منذ اندلاع الثورة زخما وحركية لم تشهد لهما مثيلا من قبل فقد تحركت أطراف المجتمع المدني والسياسي وخاصة منها المنظمات الحقوقية في حوارات معمقة ومشاورات جدية من اجل تحديد ملامح المجتمع الديمقراطي التعددي الذي نريد وضبط المراحل والخطوات العملية لانجاز التحول الديمقرطي. وقد هبت على المنطقة العربية ما يشبه ريح الخمسين (وهي ريح صحراوية موسمية تهب على مصر لتصل الى ما بعد فلسطين) التي انطلقت من تونس لتمس المنطقة العربية من المغرب الى البحرين ولتكنس معها النظريات المؤسسة علميا...! من نظرية »قوة الطاغية« (la force de l'obeissance de Béatrice Hibou) الى »متلازمة السلطوية« (le syndrome autoritaire de Michel Camau et Vincent Geisser) مثل العاصفة الرملية التي تغير التضاريس دون القدرة على التنبؤ بالتشكل النهائي للمهشد المجتمعي والسياسي... فتونس قد أعطت إشارة الانطلاق لهذه التحولات دون الادعاء بأنها النموذج الذي يجب ان يتبع. وتحضرني مقولتان مهمّتان في خضم ما قيل عن هذه المرحلة هما: مقولة الاستاذ عياض بن عاشور: »لقد نجح بن علي في تدمير دولة القانون بالقانون« وقول السيد عبد الوهاب المدب واصفا الثورة: »بأنها حدث يستهل مرحلة تسريع للتاريخ«. فها هي ذي ثورة فورية تبدأ بالجغرافي لتنتهي الى السياسي. برهن الشعب التونسي على ان المجتمع العربي الاسلامي ليس مجبرا الاختيار بين الاستبداد اللائكي او الاستبداد باسم الدين. ومن خصائص هذه الثورة المسماة بثورة »الياسمين« تلاقح جهود شباب »الفايسبوك وتويتر« مع نضالات الطبقة السياسية لقيادة التحول الديمقراطي. وفي الختام أريد التأكيد على فكرتين اعتبرهما مهمّتين: الأولى تأكيدا لما قاله حمادي الرديسي وعبد الوهاب المدب حول تلازم ثورة الشبكة العنكبوتية مع الاحتجاجات الاجتماعية التي تفاقمت منذ سنة 2008 مع انتفاضة الحوض المنجمي، وقد تابعت هذه الانتفاضة باعتباري عضو اللجنة الوطنية لمساندة أهالي الحوض المنجمي. الثانية ما سبق ان قلته في اجتماع 26 جانفي 2011 الذي ضم مكونات المجتمع المدني والسياسي (المعترف بها وغير المعترف بها). يجب ان يبدأ كل منا بنفسه لنعيد ترتيب أوراقنا وملائمة ذهنياتنا مع متطلبات المرحلة الجديدة فهذا الجيل الجديد لا يعرفنا ولا دخل له بنضالاتنا ولا »بشرعيتنا التاريخية« وكل ما يحتاجه منا هو أجوبة مقنعة (وليست طبخات جاهزة للاستعمال) لتساؤلاتهم. فلنلتزم بالحكمة والتعقل فنسمعهم أولا لنتمكن من تقديم خارطة طريق مقنعة وواقعية. ومن هذا المنطلق تأتي مساندتي للحكومة المؤقتة الثالثة التي شكلها الرئيس المؤقت السيد فؤاد المبزع برئاسة الوزير الأول السيد الباجي قائد السبسي.