نعلم ما تحوّلت إليه، أو ما انتهت إليه مصطلحات الرئيس السابق (المخلوع) في بيانه وسائر شؤونه في السياسة والحكم، إلى معان بالضدّ.. من حرية وديمقراطية وحقوق إنسان، ولا للخلافة الآلية ولا للرئاسة مدى الحياة، وما إلى ذلك من شعارات، كالمصالحة ولا ظلم بعد اليوم.أخذ الخلافة الآلية وأسقطها عن غيره، وأخذ الحرية شعاراً لجريدته وجرّدها عن صحف غيره، وأخذ مجلة الأحوال الشخصية وطبقها على نفسه بعكس فصولها.ولا مجال لسرد بقية مخالفاته، لعِلمنا بها كلها، أو تبيّنتْ لنا في "مُخَلَّفِه" كما يقول ابن خلدون في المال والولد، بل وأكثر، في الدولة من عاليها إلى سافلها.كلها كانت مصطلحات تُخفي عكس ما تعلن ولا ضابط لمعناها إلاّ كما تشتهي نفسه في الحكم والسياسة. وسارت عدوى منه إلى كافة أعوانه ومريديه إلا من رحم ربّك، ولعلهم أقل من القليل، أو ستكشف ملفات الفساد في دائرة نفوذه أنه كذلك.ورأس الفساد في المجتمعات هو تدنّي مستوى القيم في أصحاب المسؤولية. فإذا كان لا دين ولا أخلاق، إلا ما يُموّه به الفرد لحاجة في نفسه، أو ما يدلّ عليه دينه بالنسب العائلي أو التماهي في المجموعة القومية لغاية سياسية في نفسه، فذلك هو قلة المسؤولية، بل الخيانة يعينها على رأس المسؤولية وتلك أهم أحد الأسباب التي تقوم من أجلها الثورات. ولذلك فأوّل ما تتجه إليه العناية في الثورات هو تحديد المصطلحات، حتى لا تكون مجرد حقيقة وهو مجاز، أو مجاز في ذهن مخاطِب وحقيقة في ذهن مخاطَب (بالكسر في الأول والفتح في الآخر)، أو بعبارة أخرى زيفٌ أكثر منه صدق.وآفة الحديث بين الناس هو غياب المصطلح الدقيق عن مفاهيمهم المشتركة، فهي بالضرورة مشتركة ولكنها بالواقع خلافية.ولذلك، من أهم ما اعتنى به علماؤنا في الإسلام من قديم هو ضبط مصطلحات العلوم والفنون، وعدم الدخول في مناظرات أو جدل قبل الاتفاق على جملة مفاهيم، تضبطها مرجعيات ذهنية ومصطلحية واضحة.ولو نبدأ أمرَنا في هذه الثورة المباركة بمعرفة من يتفوّه بها ثورة، وهي في حقيقة لفظِهِ انقلاب لا يحمل أكثر من انتهاز فرصة لانتقال الثروات من يد إلى يد، أو انتقال السلطة من شخص إلى شخص آخر؛ وعقليات الاستغلال هي نفسها والفهم للمسؤولية هو نفسه، وقلة المحاسبة على الزيف والتمويه هي نفسها، ونسبة ما للغير إليك، والرمي بالتهمة عن نفسك على غيرك، وهكذا.وهكذا في دوامة من فوضى القيم والمفاهيم والمصطلحات. ولا ينتعش منها إلا الطفيليون في الدين والسياسة. ويبقى المجتمع، بسبب عدم ضبط الأمور في قاموس موحّد، يجرّ أذيال التأخر، والوهم أنه يجرّ أذيال التقدم.فبالأمس القريب فقط، نبّهني أحد من يستقصي أخبار بعض أعضاء الحكومة الانتقالية، أو ما يسميه بعضهم تصريف الأعمال (أو تسيير الأعمال أيضاً)، ممن يعرف سيرتهم جيداً في الماضي القريب والبعيد، بأن صاحبه ادّعى لنفسه في بطاقة التعريف بنفسه بمناسبة تعيينه وزيراً في حكومة السيد محمد الغنوشي الثانية، أنه كان رئيس جمعية عتيدة للتنمية الشاملة بالوسط (القيروان وسيدي بوزيد والقصرين). فراجعني مغتاضاَ من هذه الفِرْية، وهو يعلم من مؤسس تلك الرابطة ومن كان رئيسها، وكيف أن صاحب هذا الادعاء استغل نفوذه كمستشار قانوني لدى رئيس إحدى المؤسسات العمومية الكبيرة لاستقطاع مَجْدٍ طريف برئاسة هذه الجمعية، ولو في لحظة غفلة وبطرق غير شرعية، ونشرت الصحافة آنذاك فضائحها.وأمامنا الكثير لضبط مفاهيم المصطلحات في مستقبل شؤوننا بإدارة هذه الثورة، فالهيئة المسماة اليوم بالهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والاصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، أثارت في هذه الأيام الأخيرة، منذ الاعلان عن انتصابها في الأسبوع الماضي، كثيراً من سوء التفاهم، من الأطراف الممثلة فيها، أو الأعضاء الذين وجدوا أنه بوجه من الوجوه لم تُلبَّ رغبتهم مع من معهم، أو مع من ليس معهم في ذلك المجلس.وقيل يومها إن "التركيبة" أي العضوية ستوسّع لتلبية الرغبات، ثم قيل كيف ستوسّع؟ ومن الجهة التي سيعهد لها بذلك. وعلت الأصوات بالنقد وبالانتقاد وبكشف الخلفيات والممارسات، وما إلى ذلك من تبادل العنف بالقول وبالسمع وبالبصر وبالجوارح، إلى حد انفضّ المجلس قبل أن يجلس أحد، أو قبل أن يطيب الجلوس لأحد. وتواترت الأخبار فيما بعد أن الرأيَ كان المضيّ فيما يشبه الإجماع على العمل ولا إجماع والانتقال إلى النقاش ولا نقاش، وربما دفع بعضهم نحو ضبط الأعصاب لامتصاص اللحظة الغاضبة، على تقدير اغتنام الصورة الإعلامية الملتقطة للحضور، حتى وهم في حالة استماع إلى خطاب الافتتاح الرسمي، للإيهام بأن كلما صار هو "علامة صحة" و "عنوان " مصارحة وحرية". ولكن لم يحصل من ذلك شيء، وامتد اللغط لانتقاد ما هو أكثر من "التركيبة"، وهي الأهداف والآليات وغير ذلك من أمور أساسية لعمل الهيئة.وفي المصطلح يكمن كل الخلاف. فالترقيع واضح في كل شأن من شؤون هذه اللهيئة، وليس بالترقيع تقوم مصالح ثورة تريد تغيير النظام.فالأصل أن تكون الكلمة للشعب. وفي هذا لم يستفت الشعب في شيء. وأخذت القرارات باسمه وبشرعيته، أو ما يسمى شرعية الثورة. وما أعطت الثورة شرعيةً إلى أحد، حسب علمي، رغم كل المحاولات لإسناد الكلمة للشعب عن طريق استفتاء حول أمر من الأمور على الأقل، لتطيب النفوس بقوْل نعم أو لا، وينتهى ما نراه من سوء الثقة في الأشخاص المتبوئين، صدفة أو غصباً من أنفسهم للسلطة في إدارة ما بعد الثورة، سواء في الحكومة أو في غيرها من جهات القرار.فمن لجنة عليا مستقلة، فيما قيل في الأول، إلى حكومية بحكم التعيين والاختيار لأعضائها في دائرة التعيين ذاتها، ومن لجنة للاصلاح السياسي، بمسماها الأول إلى هيئة عليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي.والعجيب كيف لم يغب على أصحاب اللغة والاصطلاح هذا التثقّل والتراكم في المسمّى؟ بل على الأصح كيف غاب عنهم ذلك في ظل الجمع بين المتنافرات في هذه الهيئة. فهي هيئة، وهي مجلس، وهي لتحقيق أهداف، وهي إصلاح سياسي، وهي انتقال ديمقراطي؟ هل ليس من أهداف الثورة الإصلاح السياسي، أو ليس الانتقال الديمقراطي بالمطلوب من أهداف الثورة حتى يُخصّ بتعبير ويملأ حيزاً من التعريف بالهيئة، إلى درجة عقّدت الأمور حول أهدافها ذاتها وآلياتها ذاتها وصفة المشاركين فيها ذواتهم، من معينين ومختارين؟وما دامت هذه الهيئة معيّنة أو ممثلة بالتعيين، فكيف يسُوغ أخذ القرارات فيها بالتصويت، وهي ليس فيها حتى الاقتراع على الأشخاص. فالتصويت لا يخوّل إلا لناخبين أو منتخبين!! وليس في جماعة هكذا التأمت على عجل، وعلى غير اتفاق، وبمحض الصدفة انتقلت من لجنة إلى هيئة ومن هيئة إلى مجلس مستقل عن هيئة، وهيئة مستقلة عن مجلس.ولذلك ظهرت هيكلاً مفككاً، لا فلسفة واضحة وراءه إلا الارتجال والدفع إلى المحال، أو ربما الرهان على ما يسمى في علم النفس الاجتماعي بعدوى الإجماع، كأن تضحك فيضحك الجميع، أو تبك فيبكي لبكائك من حولك دون داع مشترك؛أي بتحريك بعض الغرائز في الإنسان السياسي، فتجعله يوافق لخوف أو طمع وليس لاقتناع أو جدل.ثم ظهرت بعد الاجتماع الثاني فكرة سرية المداولات داخل هذا الجهاز، فإذا نقطة خلاف أخرى مستجدة، ربما ألهبت النفوس، لأنه حقيقة "جهاز"، فهو هيئة فوقية متكونة من رئيس و"مجمع" خبراء حتى لا نقول مجمع مسكوني أو لاهوتي، ومتكون من مجلس ليس عليه من نفسه رئيس بالانتخاب أو بالوفاق.وقد صدق من قال من أفراده، أو رئيسه، إنه أصبح يضيق طاقة من الخلاف عليه في هذا المجلس، حتى ليخشى على قدرته البدنية أن تنهار تحت حِمله.كل ذلك، لأن المفاهيم لم تتوضح من الأول لدى السائل والمسؤول، والمصطلحات تتبادل المعاني يبينها على غير نظام لغوي أو معرفي قائم في أذهان الجميع.وهذا وضْع لا يُحسد عليه المشاركون في هذه الهيئة والخبراء من اللجنة التي في صلبه ومجلسها أيضاً.ومن ميزة المجتمعات الحديثة التدقيق في التفاصيل بكل الآليات المتاحة قبل تصوّر البناء، وتجسيم البناء على مثال مجسّم قبل وضعه أو إقامته على الأرض.وفي غير ذلك من الأحوال والتصاميم البسيطة يصعب التغلب على الصعاب للمِرْقاة إلى أعلى