معطيات جديدة بخصوص منتحل صفة صفة مسؤول حكومي: الاحتفاظ بكاهية مدير بالقصرين    صفاقس تُكرّم إبنها الاعلامي المُتميّز إلياس الجراية    سوريا... وجهاء الطائفة الدرزية في السويداء يصدرون بيانا يرفضون فيه التقسيم أو الانفصال أو الانسلاخ    مدنين: انطلاق نشاط شركتين أهليتين في قطاع النسيج    انهزم امام نيجيريا 0 1 : بداية متعثّرة لمنتخب الأواسط في ال«كان»    في انتظار تقرير مصير بيتوني... الساحلي مديرا رياضيا ومستشارا فنيّا في الافريقي    رابطة الهواة لكرة القدم (المستوى 1) (الجولة 7 إيابا) قصور الساف وبوشمة يواصلان الهروب    عاجل/ "براكاج" لحافلة نقل مدرسي بهذه الولاية…ما القصة..؟    الاحتفاظ بمنتحل صفة مدير ديوان رئيس الحكومة في محاضر جديدة من أجل التحيل    الطبوبي في اليوم العالمي للشغالين : المفاوضات الاجتماعية حقّ ولا بدّ من الحوار    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    المسرحيون يودعون انور الشعافي    نبض الصحافة العربية والدولية... الطائفة الدرزية .. حصان طروادة الإسرائيلي لاحتلال سوريا    الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    أولا وأخيرا: أم القضايا    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    وزير الإقتصاد وكاتب الدولة البافاري للإقتصاد يستعرضان فرص تعزيز التعاون الثنائي    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    عاجل/ تفاصيل جديدة ومعطيات صادمة في قضية منتحل صفة مدير برئاسة الحكومة..هكذا تحيل على ضحاياه..    الطب الشرعي يكشف جريمة مروعة في مصر    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تختتم مسابقات صنفي الاصاغر والصغريات بحصيلة 15 ميدالية منها 3 ذهبيات    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    البطولة العربية لالعاب القوى للاكابر والكبريات : التونسية اسلام الكثيري تحرز برونزية مسابقة رمي الرمح    تونس العاصمة مسيرة للمطالبة بإطلاق سراح أحمد صواب    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات: المنتخب المغربي يحرز لقب النسخة الاولى بفوزه على نظيره التنزاني 3-2    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    منذ سنة 1950: شهر مارس 2025 يصنف ثاني شهر الأشد حرارة    وفاة أكبر معمرة في العالم عن عمر يناهز 116 عاما    منظمة الأغذية والزراعة تدعو دول شمال غرب إفريقيا إلى تعزيز المراقبة على الجراد الصحراوي    معز زغدان: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستكون مقبولة    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    مباراة برشلونة ضد الإنتر فى دورى أبطال أوروبا : التوقيت و القناة الناقلة    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    تعرف على المشروب الأول للقضاء على الكرش..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن أية «مصالحة وطنية» يتحدث الرئيس المؤقت؟!
بقلم: مازري مرتضى الزغيدي
نشر في الشعب يوم 02 - 04 - 2011

لقد كان الرئيس المؤقت على الأرجح ينتظر بلهفة بالغة، موعد حلول ذكرى 20 مارس 1956، حيث ان مكانتها السياسية والنفسية لدى جميع التونسيين تيسّر له استثمارها للدعوة الى ما أسماه ضمن خطابه »مصالحة وطنية« تؤلف بين جميع أطياف ومكونات البلاد... وتتآلف في بوتقتها طموحات وقلوب التونسيين... وتنخرط داخلها كافة القوى الوطنية البنّاءة من أجل تونس، بعيدا عن المصالح السياسية الضيّقة والنعرات الجهوية والمحلية... ومُستثنيا من تلك المصالحة، جميع الأطراف التي تورطت قضائيا في مستنقعات الطغيان والفساد والاستبداد ونهب ثروات البلاد!! فكل ذلك كلام جميل بطبيعة الحل... ولكن أية مصالحة وطنية لن تكون صادقة ونزيهة ودائمة الا اذا مثّلت مصلحة وطنية حقيقية لا لبس حولها إطلاقا، أي أن تخدم مسار الثورة وتكون حاميتها، وتحصن حقوق الشعب وطموحاته...
I : ذاكرة التاريخ وحدها تنير الدروب:
إن الخطاب الذي قرأه الرئيس المؤقت يوم ذكرى 20 مارس 56، ودعا فيه بحرارة بارزة الى تحقيق »مصالحة وطنية«، يتميز بخاصية ايجابية للغاية، وهي أنه يذكر الجميع بأسلوب جليّ ودون التباس:
1 بإيقاع ومفردات خطابات بورقيبة ما بين سنة 1950 وسنة 1985 خلال الازمات الاجتماعية والسياسية المريرة التي عاشتها بلادنا، حين كان يلقي عشرات الخطب المتشابهة في العديد من المدن التونسية، داعيا فيها الى ما كان يسمّيه وقتها »الوحدة القومية الصمّاء« شهيرة الصّيت، وذلك في فترات احتدام صراعاته الشخصية والسياسية المدمّرة ضدّ حركة المقاومة اليوسفية وقادتها ومقاتليها ومناضليها وزعيمها، صُلب الحركة الوطنية وخارجها...
كما أثبتت وثائق وتسجيلات وشهادات مؤسسة التميمي للبحوث، أن عشرات من الخطب المتشابهة الى حدّ التطابق حول تلك »الوحدة القومية« كان يتكفل بإلقائها في المدن والقرى والمداشر جميع وزراء بورقيبة، وبدرجة أولى كل من محمد الصياح والهادي نويرة والباجي قايد السبسي والطاهر بلخوجة ومحمد مزالي وأحمد بن صالح وأحمد المستيري وراضية الحداد ومحمد المصمودي...
كما أن التاريخ الحيّ قد باح فيما بعد بما آلت اليه تلك »الوحدة القومية«، حيث لم تكن في الواقع سوى شعارٍ مخاتلٍ فضفاضٍ لامتصاص تأثيرات حركة المقاومة اليوسفية وسخط الملايين من أنصارها، وفي مرحلة موالية، تطويقها وتشويه منطلقاتها وأهدافها الوطنية، وفي النهاية، تفكيك بنيانها السياسي والتنظيمي والبشري واضطهاد مناضليها وقياداتها داخل المحتشدات (تبرسق وغار الملح...) واغتيال زعيمها الشهيد صالح بن يوسف في أحد المطاعم بمدينة برلين عاصمة ألمانيا، من قِبَلِ عصابة قتل محترفة شكّلها بورقيبة نفسه وكلّف المدعو البشير زرق العيون بتنفيذ تلك الجريمة الشنيعة النكراء التي جلبت العار لبلادنا في أوروبا...
كما أن تلك »الوحدة القومية« بمفعولها الأفيوني، لم تكن سوى أكذوبة ضخمة منافية للمصلحة الوطنية الحقيقية، حيث آلت في أواسط الخمسينات الى إجهاض المقاومة الوطنية المسلحة ووأدها في المهد وهي في عنفوانها الثوري، والهرولة نحو الخضوع المذلّ الى خيار منداس فرانس وغُلاة الاستعمار الفرنسي الغاشم وقبول ما أسماه بورقيبة والمنجي سليم وجلولي فارس والطيب المهيري وغيرهم »الاستقلال الداخلي«، وهو الخيار البورقيبي الذي حوّل بلادنا من مستعمرة قديمة محتلة الى شبه مستعمرة جديدة »مستقلة« شبيهة الى حدّ بعيد بمقاطعة فرنكفونية لفرنسا على أرض عربية سكانها تونسيون!!
2 كما أن خطاب الرئيس المؤقت قد ذكّر الجميع باسطوانة شعارات نظام بورقيبة القديمة التي انقرضت نهائيا دون رجعة بفعل الثورة الشعبية والتحولات العميقة الحاصلة في بلادنا، ومن هذه الشعارات الأرشيفية البالية على وجه الخصوص، ما يسمى جزافا »العقد الاجتماعي للتنمية« و »الاشتراكية الدستورية« و »التضامن الوطني« الزائف و »توحيد الصفوف من اجل تونس« وشعوذة »مصلحة تونس فوق كل اعتبار« وخرافة »نبذ التطرّف« الشاحبة، وغيرها من القرائح الشعاراتية المزوّرة التي استثمرها نظام بورقيبة وامتداده السياسي والحزبي، طغمة جنرال المخابرات الهارب، في جميع أطوار مؤامراته التصفوية المتلاحقة طيلة خمسة عقود مظلمة في حق ابناء وبنات الشعب التونسي، ممثلين في الحركة النقابية العمالية وقياداتها المتعاقبة من أحمد بن صالح الى أحمد التليلي الى الحبيب عاشور، والحركة الطلابية المجيدة والاتحاد العام لطلبة تونس، والاحزاب السياسية الوطنية ومنظمات وجمعيات المجتمع المدني المناضل، الحقوقية منها والمهنية والاعلامية والشبابية والثقافية وغيرها...
3 كما أن نداء الرئيس المؤقت بما سمّاه »مصالحة وطنية« (على وزن وحدة قومية صمّاء بالضبط)، ينبش الذاكرة الفردية والجماعية حول ألاعيب طغمة الجنرال المنهار ونظامه البائد، ويذكر الأذهان بما نسجه خلال التسعينات من مكائد سياسية محبوكة، أطلق على إحداها تسمية في منتهى المكر والدهاء وهي »الميثاق الوطني« سيّء الصيت الذي ساهمت في ترويجه والتدثر به بعض الأطراف السياسية والاجتماعية المخدوعة في الصميم، بل وحتى التيار السلفي الظلامي الذي يتقن التفنن في التقلبات المدروسة وخلط الأوراق...
... ولقد عاين التونسيون ما آلت اليه خدعة ما يسمى »الميثاق الوطني« من مآس مريرة لبلادنا، لأنه لم يكن سوى سيارة مفخخة متعمدة، غايتها الوحيدة ترويض الحركة الشعبية والاجتماعية وتعويم تأثيرها ثم الانقضاض عليها، مقابل إدامة أنفاس النظام وتأبيد سلطانه وجبروته وفساده العارم« ولَوْلاَ تفتق الانتفاضة الثورية المجيدة في بلادنا، وطلائعها البواسل وشهدائها الخالدين ونفسها الديمقراطي الوطني، لأصبحت تونس الحبيبة ملكية خاصة للجنرال الهارب وعائلته الموبوءة وأزلامهم وبيادقهم من طواغيت الرأسمالية الكمبرادورية المتعفنة والغارقة حتى العنق في مستنقع الفساد والنهب والتهريب، المتحصنين بأجهزة الدولة الاستبدادية الطبقية!!
4 كما أن خطاب الرئيس المؤقت قد تضمن استثناءً لمن أسماهم »الذين تورطوا فضائيا في ملفات فساد واستغلال نفوذ لمآرب شخصية«، أي سدّ الطريق امامهم للاندماج ضمن شعاره »المصالحة الوطنية«!! (... والله عال كما يقال!!)...
... فبالله يا ناس... كيف ينسى الرئيس المؤقت (وهو أول العالمين جيدا بجميع الحقائق العلنية والخفية منذ كان وزيرا للشباب والرياضة في نظام بورقيبة، وصولا الى تقلده رئاسة مجلس النواب المنهار، بل وحتى تكليفه برئاسة الدولة المؤقتة!!).
كيف ينسى (أو يتناسى ربما!!) انه صرّح رسميا بنفسه (وكذلك فعل الوزير الاول المؤقت للحكومة المؤقتة)، بأن القطيعة النهائية مع النظام البائد لا رجعة فيها، أي ان أغلبية خلايا عنكبوت النظام المنهار، فاسدة تماما حتى العنق ومتورطة سياسيا وأخلاقيا في مستنقع الفساد والاضطهاد والنهب واستغلال النفوذ للاستثراء الفاحش، او متورطة في سراديب مثلت العمالة والصمت والتستّر، من وزراء وكتّاب دولة ومديرين عامين وسفراء وقناصل وولاّة ومعتمدين ورؤساء بلديات وبارونات الشركات الكبرى (العمومية والخاصة) ورموز الأخطبوط البنكي الرهيب وبيادق الثقافة والاعلام المتزلفين وآكلي فتات الموائد وأعدادا وافرة من المدرسين في الجامعات والمستشارين والقضاة والاطباء والمحامين الذين طالما تمعشوا من أزمات البلاد وأرهقوا حناجرهم بترديد الولاء والطاعة الذليلة وخصصوا أصواتهم للتغني بأنشودة »المناشدة« المقرفة!!
... ولكل ذلك، فإن إفراد المتورطين قضائيا فقط بالاستثناء من »المصالحة الوطنية« المذكورة أمر لا يستقيم إطلاقا، لأن ذلك من قبيل البديهات ومن تحصيل الحاصل، وبما انه لا مجال لتلك المصالحة الا بالقطيعة النهائية مع جميع خلايا عنكبوت النظام المنهار وشخوصه وبيادقه وأدواته وورثته، فان الاستثناء الذي أشار اليه الرئيس المؤقت في خطابه، لا مفرّ اطلاقا من ان يشمل (فضلا عن المورطين قضائيا) الالاف من المورطين سياسيا وأخلاقيا في الاضطهاد والفساد والتمعش والقهر والتنكيل والاستثراء، لان مخاطرهم على البلاد وعلى ثورة الشعب ومسارها، أشد تهديدا وتخريبا وهدما من المورطين قضائيا تحت ذمة العدالة ورهن الايقاف، خصوصا ان هؤلاء الالاف من المتورطين سياسيا وأخلاقيا وماليا وإداريا في سردايب الفساد والقهر، مازالوا الى حدّ الآن (ومسار الثورة تخطّى شهره الثاني!!) يحتلون مواقع سياسية وقنصلية وبوليسية حسّاسة، ومناصب اقتصادية وادارية وبنكية وإعلامية وثقافية واقليمية مؤثرة، بل ان العديد منهم (بغاية خلط الأوراق واستعادة الأنفاس تطويقا لمسار الثورة وتخندقا ضمن سردايب مناوئيها)، قد اختاروا بانتهازية مقرفة قديمة، ركوب الموجة الجديدة والاندساس المفضوح الزائف في صفّ خطاب ثورة الشعب ومفرداتها وشعاراتها، حتى وصل الامر، ببعضهم الى حشر نفسه (بمؤازرة معلومة) في عضوية تلك اللجان الحكومية الثلاثة المثيرة للجدل والرفض والامتعاض، بل وحتى الانقضاض على رئاستها والتحكم الفردي في مصيرها، من ذلك، النموذج النوعي الصارخ المتمثل في »الهيئة العليا للاصلاح والانتقال« التي أهدت الحكومة المؤقتة رئاستها (عن وعي تام) الى احد ابرز مثقفي البلاد الدستوري القديم، وذلك من باب تكريم عائلة مثقفة دستورية عريقة، ظلت جميع فروعها أمينة تماما للأمانة التاريخية وجذورها الدستورية العريقة المتجددة، وهو ليس عيب في حد ذاته!!
II : لا مصالحة وطنية عادلة خارج منطق الثورة وأبجدياتها:
إن المضمون اللغوي البحت لكلمة »المصالحة« يعني إجمالا ، إصلاح ذات البين بين طرفين أو أ كثر، ورأب الصدع بينهما وحصول كل ذي حق على حقه كاملا غير منقوص، اي حسب قاعدة القسطاس والعدل... وعلى سبيل المثال، فان المصالحات القمركية او القضائية او الزوجية أو غيرها، لا تستقيم أبدا، ولا تدوم إطلاقا اذا لم تنخرط تماما ضمن قاعدة المحاسبة والحق والعدل التام، اي نه لا سبيل على الاطلاق لأية مصالحة (في اي ميدان كانت) دون ان تكون عادلة بدقة مليمترية، وعندها فقط يجوز اعتبارها مصالحة متسامحة، لأن التسامح ليس إطلاقا مرادفا لإسقاط الحق او تسويف العدالة... وما ذلك الا ضمن القضايا الجزائية او المدنية الفردية البحتة... فما بالنا حينما يتعلق الامر بقضية وطنية كبرى تهم ابناء وبنات شعب بكامله؟! حيث ان الحالة تحتم وجوبا أعلى درجة من درجات الحزم الوطني المتماسك، وأقصى حد من اليقظة الشعبية الدائمة...
أما سياسة طلاسم الشعارات المخاتلة الفضفاضة، وسياسات الامتصاص والترويض ومسابقة الزمن وشراء الوقت، فهي خيارات أرهقت الشعوب طويلا واكتوت بنيرانها طيلة خمسة عقود مظلمة، ودمرت الوطن وكادت تحوّله الى مزرعة خاصة وملكية فردية وعائلية للقياصرة القدامى والجدد...
... وانطلاقا من جملة تلك الاساسيات والقواعد العامة، فإن ما دعا الى الرئيس المؤقت من »مصالحة وطنية« لن يكون في افضل الحالات سوى صيحة في واد غير ذي زرع، إذا كان ينوي التحضير لمصالحة جائرة وغير عادلة بالمرّة، بين الضحية والجلاّد، وبين جماهير شعب بكاملة وقياصرة النظام الدستوري المنحل، بجناحه المدني البورقيبي وجناحه العسكري المخابراتي للجنرال الدموي الهارب... كما ان اية مصالحة لن تكون عادلة وطبيعية. إذا كانت غايتها الوحيدة السعي الى ترويض الزخم الثوري السائد وامتصاص أوكسيجينه الحيوي، و »إعادة المياه الى مجاريها« بين شعب باسل عانى الامرّين وضحّى بأبنائه وبناته ورجاله وأطفاله وأنفاسه ودموعه، وفقد قرابة 300 شهيد وشهيدة، وبين بقايا عنكبوت البلاط الدستوري (القديم والجديد على حدّ السواء) وتوابعه من قياصرة الرأسمالية الكمبرادورية الموبوءة ولصوص العرق وناهبي ثروات الوطن وعصابات الاضطهاد والقهر وأوكار الفساد والرشوة والتهريب، وقطع شطرنجهم المأجورة في قطاعات الاعلام والبنوك والثقافة والقضاء...
وعلى صعيد متواز، وقبل كل ذلك وفوق كل ذلك... متى استقام الظل والعود أعوج!! وأية مصالحة واهية ومفخخة هذه، التي قد يسعى البعض (داخل »الفريق الحكومي« المؤقت وخارجه الى ترويجها، وجلاّد والشعب وناهبو خيرات الوطن ولصوص مقدرات الاقتصاد لا يزالون في مواقعهم المؤثرة يصولون ويجولون ويتجولون، وما يناهز 30٪ من الميزانية العامة للدولة نفسها، محصّنة في بنوك سويسرا وفرنسا وبلجيكيا والبرازيل واليابان على ذمة عصابات الجنرال الهارب وزوجته وعائلتها الموبوءة، والحاج اللصّ العالمي المدعو صخر الماطري (زوج سيرين بن علي) يتمكن تحت أنظار الحكومة المؤقتة وسماعها، من تحويل الثروات المالية المنهوبة الى أحد اكبر البنوك في الدوحة وحمايته من طرف دولة قطر التي وهبته رخصة إقامة رسمية دائمة على أراضيها (... الله وحده يعلم مقابل ماذا!!) في الوقت الذي بلغت فيه نسبة البطالة في بلادنا سُلّم 26٪ وهي نسبة مفزعة لم تسجل في أي بلد عربي على الاطلاق، الا في قطاع غزة الفلسطيني المحتل والمحاصر، وفي العراق الشقيق تحت احتلال التحالف الايراني الامريكي المشترك!!
... فمهما يكن من أمر، وبصرف النظر عن حسن النوايا أو سوئها، وعن التمثلات الخاصة بالرئيس المؤقت لما أسماه »مصالحة وطنية«، فإن المتغيرات الجذرية الحاصلة في بلادنا، والمنطق الداخلي الحيوي لثورة الجماهير الكادحة والشبيبة المعطّلة عن العمل، وفلسفة التاريخ نفسه الذي لن يعود القهقرى، تمثل جميعها العوامل الموضوعية والذاتية الضرورية التي لن تقبل الا بمصالحة وطنية عادلة حقيقية ودائمة ضمن الثوابت الأساسية التالية:
1 أنها تنهل مباشرة من الينبوع الثريّ المتدفق للمنطق الداخلي لثورة الشهداء الخالدين.
2 أنها تنخرط اليوم وليس غدا في مسار الملاحقة الجنائية القانونية والمحاسبة السياسية والأخلاقية الحازمة والهادئة لكل أسطول طواقم الاضطهاد السياسي وكتائب القهر الطبقي والاجتماعي وعنكبوت أوكار النهب والفساد الاقتصادي والمالي والقمركي دون استثناء، ومستنقع خلايا التمعش من الدعارة والخناء، المتورطين بالأمر والتنفيذ والتستّر، ليس إطلاقا من باب الثأر او التشفّي، بل من أجل رفع جميع المظالم السياسية والجرائم الاقتصادية والبوليسية الشنيعة التي اكتوت بنيرانها الحارقة جماهير شعب بكامله وطلائعه المناضلة على امتداد خمسة أجيال متلاحقة.
3 أنها مصالحة وطنية عادلة متمسكة على الدوام بأن تكون في قطيعة تامة ونهائية مع جميع منظومة مؤسسات البلاط الدستوري البائد (القديم والجديد على السواء) وجميع أصنام 1934 وقياصرة 1987 وأدواتهم ومخلفاتهم الموبوءة.
4 أنها تؤسس لفجر نوعي جديد، يرفع عاليا راية الوطن، ويعيد له مكانته وكرامته وقداسته، ويؤلف بين جماهير الشعب الكادحة وطلائعها الثورية الباسلة ومنظماتها الجماهيرية المناضلة وجمعياتها الحقوقية والمهنية والاعلامية والثقافية المنصهرة في نسيج الثورة دون التباسات.
5 أنها تكون قادرة قولا وفعلا على الميدان على إعادة السيادة والكرامة والأنفة والطمأنينة للجماهير الكادحة، وتشييد اللبنات الأولى الاساسية لنظام ديمقراطي وطني مناهض للامبريالية والصهيونية والرجعية والسلفية المظلمة، من أجل بناء جمهورية ديمقرطية شعبية تكون وفيّة للشعب وثورته وطلائعه وشهدائه البواسل الأبرار...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.