تعيش تونس بعد 14 جانفي 2011 حراكا سياسيا واجتماعيا غير مسبوق، مداره بحث الاطراف السياسية المختلفة عن دور في صياغة صورة »تونس المستقبل« ، باعتبارها المهمة الملحة المباشرة الملقاة على التونسيين في راهنهم. ومن الطبيعي في مثل هذه الظروف ان تقدم الاتجاهات المختلفة مشاريعها الخاصة، لتتنافس في ما بينها بحثا عن الجدارة، فوزا بثقة الشعب. غير أنه لا يمكن لأي منها انتزاع مرتبة الافضلية الا متى كان مستجيبا للطموح في تحقيق نقلة مجتمعية فعلية تجد تعبيرتها في جملة الحقوق السياسية والاقتصادية والثقافية المضمونة دستوريا. ويسود الاعتقاد اليوم ان التونسيين معنيون جدا بأمر المستقبل ويحدوهم عزم لا لبس فيه على القطع مع الماضي، ماضي الاستبداد، والظلم والتهميش والاستلاب.. هم يتطلعون الى ان يكونوا أحرارا سادة في وطنهم مسؤولين عن تقرير مصيرهم، الا ان هذا لن يتحقق لهم الا عبر الجمهورية الديمقراطية الاجتماعية بما هي خيار سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي عصري، قائم على التكافؤ الحقيقي بين مكونات المجتمع، بنسائه ورجاله، شيبه وشبابه.. وهذا اختيار يجد في معارضته البدائل التي تقدمها بعض الاطراف الاسلامية وخاصة المجاهرين منهم باقامة »نظام الخلافة« في تونس، باعتباره من منظورهم النظام السياسي الأوفى والأصلح والأكثر اخلاصا لروح الدين الاسلامي. ومادمنا في مرحلة صياغة المشاريع وبلورتها، فان الامر يدعونا الى قراءة بديل الاسلاميين المعلن، المتمثل في اقامة الخلافة الاسلامية في تونس قراءة نقدية، تدلل على انه بديل غير لائق بحال تونس خلال القرن الخامس عشر للهجرة والألفية الميلادية الثالثة. ولمعالجة الموضوع، يتعين البحث أولا في الخلفيات التي يصدر عنها هؤلاء في طرحهم ذاك. إن ما يجب ملاحظته في البداية ان الخلافة نظاما سياسيا اقترنت تاريخيا بالاسلام، الامر الذي يزيدها في عيون هؤلاء مشروعية ويضفي عليها قداسة ترفعها فوق بقية الانظمة السياسية. ومادامت الخلافة قد اقترنت بالعهد الاسلامي الأول، فلعلّ ذلك يبعثهم على التوهم، انها النظام السياسي الأوحد والأوثق وربما اعتبروها لهذا السبب فوق التاريخ، عابرة لكل الازمنة والامكنة، شأنها شأن الدين الاسلامي ذاته. وهكذا يجرد الاسلام والخلافة من مضمونهما التاريخي، فهل يستقيم هذا المنطق؟ بالتأكيد كلا، وليعتقد هؤلاء ما حلا لهم من الاعتقادات في شأن الاسلام، لكن الدين يبقى مع ذلك، ظاهرة تاريخية وجدت مع نشوء المجتمعات البشرية الاولى. وقد أثبت الباحثون ان الانسان البدائي قد انخرط في دين، باتخاذه لنفسه معبودا خاصا، فكان ان عَبِدَ العناصر الطبيعية كالشمس، والسحاب، والنار.. وقدم لها القرابين خوفا منها ونشدانا لحمايتها، وقد تناسب هذا الطور تاريخيا، مع حالة الضعف والجهل التي كانت عليها البشرية في بداياتها. وبتطور المجتمعات تطورت الاديان، فقد مرت المجتمعات من طور اعتقادي ينهض على تعدد الالهة الت طور يقوم على فكرة الاله الواحد. وهكذا، فإن نشأة الاديان وتطورها قد ارتبط تاريخيا بتشكل المجتمعات الانسانية وتطورها. وبعبارة اخرى، فان ظهور الاديان هو من مقتضيات الصيرورة التاريخية للمجتمعات في الأزمنة القديمة. والاسلام نفسه لا يخرج عن هذه القاعدة. بل لابد من التأكيد ان وجود العرب سابق لظهور الاسلام، وان الاسلام قد ظهر بعد تشكل مقدمات الوحدة على الارض في شبه الجزيرة العربية، بهيمنة قريش اقتصاديا واحتكارها الزعامة الدينية بمكة في عهد قصي بن كلاب. ومهما يكن، فقد اضطلع الاسلام بدور تقدمي في تاريخ العرب بمساهمته الى جانب عوامل اخرى في نحت وحدتهم وترسيخها، وبناء حضارتهم وتوسيع دائرة اشعاعها، لكن الامر الآخر الذي لا يجب اغفاله، هو انه بحكم منطق التطور المجتمعي، وما تراكمه المجتمعات عبر الزمن من تجارب ومكتسبات ثقافية فكرية، واقتصادية واجتماعية وسياسية، تراجع دور الدين عنصرا أولويا في تنظيم الحياة لفائدة النظريات الاجتماعية والسياسية والحقائق العلمية والاقتصادية والثقافية التي افرزتها العصور الحديثة والمعاصرة، بحيث لم يتبق له من دور يذكر الا على المستوى الايماني العقدي، بما يحققه للفرد المؤمن من وظيفة الاشباع الوجداني والنفسي، اما غير المؤمن فيطلب هذا الاشباع من مصادر اخرى كالسياسة والفكر والفن... ولذلك يبقى الايمان الديني مسألة شخصية، ومادام الامر كذلك فليس من حق أي كان، ومهما كانت الذرائع ان ينصب نفسه وصيا على ايمان الناس، لأنه ببساطة »لا اكراه في الدين« وكل وصاية من هذا القبيل تعد تجاوزا على حقوق الافراد وحرياتهم الشخصية. وعلى اساس ما تقدم، فانه لابد من التأكيد ان الاسلام والخلافة ظاهرتان تاريخيتان، دون نسيان ان القرآن نفسه لم يحدد شكلا معينا من اشكال الحكم. وصفوة القول ان الدين، في اعتقادنا، تابع للحياة ومن مقتضياتها، وليس العكس، وبما ان الحياة محكومة بمنطق التطور التاريخي، فانه لا يسع التونسيين اليوم الا الأخذ بالانظمة السياسية الاكثر تطورا، وعلى رأسها النظام الجمهوري، لأنه الاكثر لياقة بحالهم، الكفيل بتحقيق طموحهم الى الحرية والكرامة والعدل الاقتصادي والاجتماعي، والقطع نهائيا قطعا واعيا مع سياسات الأمس القريب التي جردتهم من حق المواطنة... ولهذه الاعتبارات فانهم ليسوا مستعدين للتضحية بحق المشاركة السياسية، والحريات الشخصية، والتعليم العمومي المدني المختلط، والمكاسب العديدة التي حققتها المرأة، من أجل قيام خلافة اسلامية ونظام حكم ديني يأتي على تلكم المكاسب الثمينة. فجوهر الصراع في تونس اليوم لا يتعلق بثنائية الكفر والايمان، والانتصار للغيب بقدرما يتعلق بخوض معركة الحياة الحقيقية أساسها الحرية والكرامة وتكريس معنى المواطنة وكل المبادئ التي من شأنها الارتقاء بالتونسي والتونسية الى أعلى المراتب وعيا ووجودا اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. إن الدعوة الى اقامة خلافة اسلامية ونظام حكم ذي اساس ديني في تونس اليوم، دعوة لا تستقيم لانها تفتقر الى المعقولية، ولا تحقق لنا النقلة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المأمولة، وهي لا تعدو كونها مبادرة شد الى الخلف ومحاولة لوأد تطلع التوتسيين الى الانعتاق الفعلي، والغاء للحاضر لفائدة الماضي.