عدنا رغم أنّ عوامل عديدة مازالت تقف حائلا دون الخروج عن النص، الذي تعوّدنا عليه. عدنا لانّ الكتابة «أفيون»لا يمكن الشفاء منه مهما كانت العوائق ومصادر القلق. عدنا استجابة لطلب عدد من الاصدقاء منهم بالاساس سي محمد.ن، وسي رضا، والصديقات ومنهنّ وداد، ومن شباب العائلة ومنهم حمزة وكاظم.. ❊❊❊❊❊❊ لما تشهد حفل افتتاح ليالي قرطاج في ساحة المتحف، والذي اثثه الفنان المبدع رضا الشمك، تتيقن فعلا أنّ البلد أصبح غير البلد وان ثمار الثورة آتية ولو بعد حين. حفل حميمي بأتم معنى الكلمة، حضره جمهور لا يعدّ بالارقام بل بالانسجام وبالتذوّق الرفيع للكلمة الهادفة واللحن الشجيّ والايقاع الراقص أيضا. نعم اكتشفنا انّ رضا الشمك يحسن الرقص على ايقاعات مختلفة. لقد رقص حقيقة على وقع الجُمل الموسيقية العديدة التي وضعها لتلحين عدد من قصائد شاعرنا الكبير محمود درويش، واحسن العازفون تأديتها بحرفية عالية وأداها مغنون ممن يصح وصفهم بشباب الثورة: لبنى نعمان، روضة عبد الله، اسماء أحمد، مهدي العياشي ووليد المزوغي. لم يكفه انه كان متفاعلا الى أبعد حدّ مع ما انتج مثلما يفعل كبار الموسيقيين، لقد رقص نشوة وطربا وانسجاما ببدلته البيضاء التي جعلت منه عريسا يتجلّى. وحتى لا نغبط صديقنا الشاذلي العرفاوي حقه في الاخراج الركحي، نُهنّئُهُ على ما اهتدى إليه من أفكار اضافت إلى الحفل مباهج كثيرة. (طالعوا حديثا معه ينشر في هذا العدد). هذه دفعة على الحساب كما قال السلف. أما بعد فانّ مادة الحفل كانت اغاني وقصائد عرفنا بعضها فيما سبق واكتشفنا البعض الاخر في هذه المناسبة، ولربّما اكتشفناها هذه المرة فقط رغم معرفتنا المسبقة. عقدة الحفل في اعتقادي هي قصيدة شاعرنا محمود درويش، »فكّر بغيرك« وكنت أتمنى، بل انني اقترح من الآن ان تكون عنوانا للحفل، لانها الاقرب إلى الواقع الذي نعيشه اليوم، إلى الحالة الثورية التي نحن بصددها، من أهداف الثورة ان نفكّر ببعضنا البعض، أن نتآزر، أن نتوافق، ان نمضي معا في بناء هذا البلد، وان ننبذ الانانية والوحدانية والفردانية وأن نقضي على الاقصاء والابعاد والتهميش وان نعترف للاخر بالوجود وبالاختلاف وان نتذكر دوما اننا لسنا واحدا واننا لسنا وحدنا. يبدأ التفكير في الغير من ابسط الاشياء والافعال، على غرار قوت الحمام مثلما قال الشاعر، ولكنه يتطور تصاعديا إلى أعلى درجات المصير المشترك واوسع مجالات التعايش الايجابي، قاطعا مع انماط من الممارسات اخذنا نشهدها منذ أسابيع وأقل ما يقال فيها انها منذرة بإحلال ظلمات لا تستسيغها تونس، علما أنّه لا عذر لأحد بإتيانها. يعلّق صديقي المؤدّب جدا، المسالم جدّا، المستنير مردّدا بكل ثقة »يريدون ان يطفئوا نورالله« فنتفق على أنّ النور الذي نحن في حاجة إليه هو النور الذي يضيء الطريق أمامنا وليس ذلك الذي يظهر بعد مرورنا بالمطبات والنتوءات والحفر. ❊❊❊❊❊❊ حضرت الثورة في الحفل من خلال أغان أخرى قديمة وجديدة ولي ان أتوقف عند اثنتين منها: الاولى بعنوان دعاء للشاعر العالمي الكبير طاغور والتي أنشدتها باتقان وعذوبة الفنانة لبنى نعمان، لمسة الشاذلي العرفاوي ظهرت جلية في الزي الذي ارتدته المغنية حيث شابه كثيرا نمطا من الازياء الهندية المعروفة والتي اصبحت متداولة في بلادنا، اما لمسة رضا الشمك فكانت بعض الجُمل والايقاعات التي تحيلك مباشرة إلى الهند بما توحي به هذه القارة من زخم الحضارة والفكر والتاريخ والموسيقى. ولكن علم تونس حضر أيضا من خلال اللونين الأحمر والأبيض. الثانية بعنوان »الديك« وهي للشاعر الكبير نزار قباني لكن أدّاها بطريقته الخاصة والخاصة جدّا، الفنان رضا الشمك، قطعة من العذوبة انسابت على الحاضرين في تلك السهرة الرائقة، ودفعتهم بكل محبّة إلى حفظ كلماتها وترديدها مع الفنان بدل المرّة مرّات. وان كنت لا أذكر تحديدا في اي اغنية، فإنني أشير أيضا إلى بعض »النوتات« التي تحيل على موسيقى جنوب شرق آسيا، بما فيه هو أيضا من حضارة ضاربة في القديم وتاريخ زاخر بالفكر والحكمة والابداع، فأقول مرحبا بهذه الاضافات التي اطلعتنا على نماذج أخرى مختلفة وكسرت الروتين الذي كنا سقطنا فيه خلال السنوات الاخيرة من خلال الاقبال المفرط على الموسيقى التركية وعلى الموسيقى الباكستانية وخاصة المغرقة منها في النوع الصوفي. ولي في الأخير: ❊ ان أدعو الى عرض الحفل في أكبر عدد ممكن من المدن وخاصة في الداخل حتى يعود إلى أهلنا هناك بعض مما هم جديرون به من فن راق. ❊ أن أدعو إلى تكريم بعض من شعراء الثورة التونسيين بادراج قصائدهم في العروض المقبلة للحفل. ❊❊❊❊❊❊ شكرًا جزيلا للاصدقاء الزملاء في إذاعة تطاوين، الذين أكرموا وفادتنا عبر الامواج. وشكرًا لهم على التفاعل الايجابي مع مقترحنا القابل للنقاش طبعا. فقد اقترحنا عليهم ايلاء المساحة الاوسع، حتّى لا نقول كلّ المساحة، للاغاني التونسية أيا كان لونها (عدا المزود)، وجاء اقتراحنا انطلاقا من ملاحظة بديهية لا تخفى على أحد وهي ان الاغنية التونسية غريبة في إذاعاتنا العمومية والخاصة بشكل أدق. جربوا وتنقلوا بين الاذاعات في اي وقت تختارون وسجلوا ما وجدتموه بصدد البث من أغان. وقوموا بالاحصاء. يقول بعض الزملاء إنهم يستجيبون لأذواق الشباب ولمطالب المستمعين والحقيقة أنني أرفض هذا العذر من الاذاعات العمومية ولا أقبله من مذيعيها، فإذا انضمّوا او بالاحرى اذا انخرطوا هم ايضا في الموجة اللبنانية وموجات التكنو والديسكو وما شابهها، اصبح من الجائز ان نقرأ صلاة الجنازة على الاغنية التونسية. وهذه لاتختصر فيما نسمعه من كلمات والحان بل هي عنوان هوية، حقل دلالي، ترجمان شعبي، لنبض مجتمع له خصوصياته وظواهره وخلجاته التي تعكسها الاغنية. مرحبا بالعولمة وقبلها بالعوربة لكن تبقى التونسة في الاول وفي الآخر هي المدخل للعوربة والعولمة. فلا تقتلوا كلّ هذا معًا في مسألة ثانية، لا أوافق الزملاء في تطاوين (وقفصة والكاف وصفاقس والمنستير والاذاعات الجديدة المعلن عن تأسيسها) في اعتماد لهجة يسمونها لهجة ثالثة، اي تلك التي يتكلم بها كل التونسيين. هذه تبقى في نظري من اختصاص الاذاعة والتلفزة الوطنية ومن اختصاص السياسيين اما في الجهات، فلابدّمن الحفاظ على الخصوصيات بحيث لما يأتي الزائر من الشمال إلى الجنوب، لابد ان يكتشف كل شيء بما يجعل »سياحته« امرا خارقا يرسخ في ذاكرته فيحفظه ليعود إليه. فما أحلى تلك اللهجات، في الجنوب الشرقي والجنوب الغربي والشمال الغربي وهي تترقرق في حناجر صدّاحة لم يطأها الصدأ كما هي عذبة لهجات باقي الجهات، والتي لما نشنّف بها الاذان نعود إلى الجذور ونتمرّغ في تربتها العطرة. ❊❊❊❊❊ المركز الوطني للتوثيق درّة مكنونة بما فيه من وثائق تحفظها الدوريات، وبما في هذه من حقائق نحتاج بين الفينة والأخرى إلى إخراجها للناس حتى نعيد بعض الأمور إلى نصابها، خاصة في هذا الزمن الذي تكاثر فيه المتجنّون على التاريخ. كل شيء متوفّر أمام الباحث لتحقيق رغبته عدا الاهم وأقصد الآلة الناسخة فهي معطبة منذ مدّة وباقية دون اصلاح منذ مدّة. دون إطالة، لا يعقل مثل هذا الأمر اطلاقا، فهل عجز المركز ومن ورائه الوزارة الأولى والحكومة والدولة بطمّ طميمها عن اصلاح المعطب ولم لا توفير الجديد. لا نريد الالحاح في هذا الطلب، ولا نريد الاحتجاج بالطرق السارية هذه الايام. ❊❊❊❊❊❊ شكرًا في الأوّل وفي الآخر للثورة لانّها أعادتنا جيرانًا للقمر، فصارت مسؤوليتنا، كتونسيين في المحافظة على هذا الموقع أعظم.