لقد كتبت أكثر من مرة مؤكدا أن التفويض مخصوص بالرئيس المنتخب الدائم الشرعي وليس بنوابه أو بالقائمين مقامه. ولكن لا الأحزاب حركت ساكنا ولا رجال القانون أو النخبة إن صح أن ثمة نخبة أبدت موقفا من ذلك. بل لقد استمروا جميعا على صمتهم المعتاد وكأن الشأن السياسي هو شأن حكومة منزلة. هي التي تقرر فيه وهي التي تمثل المرجع فيه أبدا. ولا شك في أن هذا الموقف أحدث فجوة بل شرحا بينهم جميعا وبين الشعب بينهم وبين الشعب الذي بحدسه وتجربته مع النظام أدرك بعد أن الأمور ليست على ما يرام. والأيام ستفصح دون ريب عن هذه الحقيقة. إلا أن هذه المدة الأخيرة حدث منعطف في الأمر حاسم ويتمثل في موقف القضاة من قانون المحاماة. فالقضاة لم يرفضوه لسبب من الأسباب. بل رفضوه لأنه غير شرعي وكفى. فقد جاء على لسان السيدة روضة العبيدي رئيسة نقابة القضاة ما يلي: «إن الرئيس المؤقت ليس له الصلاحية لإمضاء المرسوم خاصة وأنه لا يدخل ضمن المجالات المخولة له لإمضاء مراسيم فيها». وهنا مربط الفرس. فالسيد القائم بمهام رئيس الجمهورية بصفة مؤقتة ليس له حق إمضاء هذا المرسوم وتبعا لذلك ليس له الحق في إمضاء المراسيم بناء على كون الرئيس المؤقت كما جاء في نص التصريح لا يملك هذه الصلاحية. والمنطوق كله يشكل جملة واحدة. في قسمه الأول تعميم وفي قسمه الثاني تخصيص. والتخصيص لا يلغي التعميم. بل هو يشكل فحسب حجة إضافية تدعم الحجة الأولى. وذلك ما يعني أن المراسيم جميعها باطلة. مما يترتب عنه أن ما بني على باطل لن يكون إلا باطلا كما تقول القاعدة الشائعة أيما شيوع. وهذا هو موضوع الحال الذي نزمع الخوض فيه. وهو يخص تحديدا البحث في شرعية التفويض والمراسيم سواء قبل 15 مارس/آذار أو بعده حين تصبح السلطة سلطة تصريف أعمال لا غير. وقبل الخوض في ذلك لا بد لنا من الوقوف على حقيقة المصطلحات. فغالبا ما نسمع خلطا فيها. وهذا الخلط مقصود أحيانا وأحيانا أخرى غير مقصود. ولكنه يدل على أي حال على اضطراب في الموقف له أسبابه التي سنأتي عليها في إبانها. فهل السيد فؤاد المبزع هو رئيس مؤقت فعلا؟ أبدا. ذلك أن لفظ مؤقت ينطبق في الواقع على جميع الحالات التي يكون فيها الرئيس المنتخب غائبا. مما يجعل كل من يقوم مقامه بشكل من الأشكال وقتيا. وبناء عليه يكون كل رئيس بالنيابة مؤقتا وكل قائم بمهام رئيس الجمهورية مؤقتا وكل رئيس انتقالي مؤقتا. فمن يتسلم هذه المسؤولية عن تفويض من الرئيس على باب الفصل 56 من دستور 1959 يكون رئيسا بالنيابة مؤقتا. أما من يتسلم هذه المسؤولية على باب الفصل 57 من الدستور نفسه فهو ««قائم بمهام رئيس الجمهورية بصفة مؤقتة» وهي التسمية التي لم تذكر إطلاقا في واقع الحال. بل حين توضح ذلك لبعضهم يردون بأن الأمر هو نفسه. والحقيقة هي أن الفرق شاسع جدا. أما هذا الخلط فمقصود قطعا. وذلك حتى يتم الانزلاق بسهولة من رئيس مؤقت إلى رئيس. ويدعى كذلك القائم بمهام الرئيس قائما بأعماله كما يدعى كذلك قائما مقام الرئيس وهو بالفرنسية Le lieutenant-président وليس كما ذهبت صحافتنا من أنه Le président par intérim. وهكذا أخلص إلى حقيقة المصطلح وهو أن الألفاظ الصحيحة التي يجب أن تستعمل في واقع السلطة الحالي هي قائم بمهام رئيس الجمهورية بصفة مؤقتة قبل 15 مارس/آذار وقائم بمهام رئيس الجمهورية بصفة مؤقتة لتصريف الأعمال بعد ذلكم التاريخ. أما كلمة رئيس انتقالي التي كثيرا ما نسمعها تستعمل مكان رئيس مؤقت فهي على خطأ عظيم تنبئ بجهل سياسي. إذ الرئيس الانتقالي هو الرئيس الذي يعينه المجلس الوطني التأسيسي إن انتخب وتنتهي مهامه بانتخاب رئيس جمهورية دائم. وهذا الخلط سيقودنا إلى الوقوف مطولا على المرسوم عدد 14 ولكن ليس قبل أن نخوض في مسألة التفويض والمراسيم وفي عدم شرعيتها عرفا وقانونا ودستورا وهكذا تباعا حتى نبين أن سلطة تصريف الأعمال لا حق لها في شيء مطلقا إلى أن نصل إلى بطلان المرسوم عدد 14 نفسه بطلانا تاما. 1 في التفويض: تحيل جميع المراسيم السابقة للمرسوم عدد 14 في ديباجتها على الفصلين 57 و 28 وأما العودة إلى الفصل 57 فلا مبرر لها. بل هي من قبيل الحشو. والحشو أو اللغو يُلْجَأُ إليه عادة للمغالطة. فهو لا يتيح التفويض للقائم مقام رئيس الجمهورية. بل هو الفصل الذي يحرمه من صلاحيات كثيرة يتمتع بها الرئيس وحده دون من يقوم مقامه بصفة وقتية بشكل من الأشكال. ينص هذا الفصل في فقرته الرابعة على ما يلي: «ويمارس القائم بمهام رئيس الجمهورية بصفة مؤقتة المهام الرئاسية على أنه لا يحق له أن يلجأ إلى الاستفتاء أو أن ينهي مهام الحكومة أو أن يحل مجلس النواب أو أن يتخذ التدابير الاستثنائية المنصوص عليها بالفصل 46». فلنتأمل هل ثمة ما يبيح للقائم بمهام رئيس الجمهورية أن يحصل على تفويض من قبل مجلس النواب؟ أبدا. بل ثمة ما يمنعه عنه. إذ بما أنه ليس بوسعه أن يحله فكيف يأخذ تفويضه؟ ثم فلنلاحظ أنه لا يمكنه أن يلجأ إلى الاستفتاء. ومن الواضح أن ذلك مجعول من أجل أن لا ينقلب على مجلس النواب. كما لا يجوز له إنهاء مهام الحكومة ولا تجوز له التدابير الاستثنائية المنصوص عليها بالفصل 46 . مما يعني أنه لا تحق له صلاحية أكثر من تصريف الأعمال. إذ إن مهمته الأساسية تنحصر في السهر على انتخاب رئيس للجمهورية في أجل محدد يقع بين 45 يوما و60 يوما. وليس له كذلك أن ينقح الدستور. كما البرلمان لا يحق له أن يقدم لائحة لوم للحكومة. وهذا ما يؤكد أن كل أمر متوقف إلى حين انتخاب رئيس للجمهورية. ودور السلطة القائمة مقام الرئيس ليس لها من صلاحية غير تصريف الأعمال والسهر على انتخاب رئيس للجمهورية. وقد أعدت بعض العبارات لا رغبة في تكرار لا مبرر له ولكن للوضوح والتأكيد على الحقائق. أما الفصل 28 الذي عول عليه للفوز بالتفويض فهو ما لا يبيحه له إطلاقا. وصريح العبارة لا يترك للتأويل بابا مشرعا. يقول هذا الفصل في بنده الخامس: «ولمجلس النواب ولمجلس المستشارين أن يفوضا لمدة محدودة ولغرض معين إلى رئيس الجمهورية اتخاذ مراسيم يعرضها حسب الحالة على مصادقة مجلس النواب أو المجلسين. وذلك عند انقضاء المدة المذكورة». وههنا ليس بمقدورنا إلا أن نجزم بأن التفويض مقصور على رئيس الجمهورية أي الرئيس المنتخب وحده دون من يحل محله بشكل من الأشكال. وليس ثمة من استثناء على الإطلاق يبيحه إلى القائم بمهامه. ثم لننظر في طبيعة هذا التفويض. فهو لا يكون إلا في غرض محدد وليس في أغراض الاشتراع عامة. فمثلا في غرض الدفاع أو في غرض المصادقة على علاقة مالية مع دولة من الدول. ذلك أنه ليس ثمة من داع إطلاقا لأن يجرد الرئيس المنتخب نفسه البرلمان من صلاحياته ويجمع بين يديه سلطتي الاشتراع والتنفيذ. ثم إن التفويض لا يكون إلا لمدة محددة أي هو لا يكون أبدا لمدة مفتوحة كما ورد في نص التفويض. أما مدة القائم بمهام الرئيس في واقع الحال فمحدودة بطبيعتها. والأنكى في الأمر أنه تمتع بحق ليس من حقه وانتهت به مدته وحل مجلس النواب وظل مع ذلك يتمتع به. مما يعني أنه بات يجمع بين يديه سائر الصلاحيات الاشتراعية والتنفيذية دون حد يحدها. فأي ديمقراطية هذه التي فاقمت من أمر الاستبداد فجعلته ملكية مطلقة من جديد بعد أن ثار الشعب مطالبا بالقضاء على الاستبداد، وهذا المأْتى ليس إلا سطوا غير شرعي على السلطة خصوصا بعد حل البرلمان نفسه. ولمعترض أن يعترض بأن الشعب هو من طالب بحل البرلمان. فاستجيب لطلبه. أجل ولكن هل كان لا بد أن تبقى السلطة نفسها خصوصا أن السيد القائم بمهام رئيس الجمهورية هو رئيس مجلس النواب نفسه وليس له شرعية تتجاوز شرعية أي نائب بالمجلسين؟ ثم كيف نكون قطعنا الرأس عن البدن وتلاشى البدن بينما الرأس ظل ينبض بالحياة غير نازف؟ ولقائل أن يقول: قبلنا ذلك خوفا من الفراغ. والجواب بين واضح هو أننا وقعنا في فراغ أشد وفي تأسيس غير شرعي في حين أنه كان من المفروض أننا ساعون إلى القطع مع طبائع الاستبداد. وما حدث في بلدنا هو لعمري أشد الأوضاع شذوذا في الدنيا قاطبة. إذ إنه أتاح للثائرين عليهم أنفسهم أن يكونوا الثوار الذين حلوا البرلمان والحزب الحاكم وحموا الثورة وقاموا بالإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي المطلوبين ولكن في الآجال وبالرجال وباللجان نفسها كما شكلها رأس الديكتاتورية رغم تغير الوجوه. أي إن حكومته هي نفسها ظلت باقية بشكل غير شرعي مؤسسة لأغرب ديمقراطية في العالم دعتها بديمقراطية التوافق مع من تريد مستثنية من تريد ومتخذة إياه بديلا عن الاستفتاء. بل إنها تمادت في إصدار القوانين بنفسها والأحزاب تصفق إلى أن وصلنا إلى المرسوم عدد 14 وهو المرسوم الذي يرقى إلى مستوى دستور. ومنذ ذلكم التفويض غير الشرعي توالت المراسيم المرسوم فالمرسوم علما أن المرسوم يعني صدور قانون ذي مأتى اشتراعي بأمر وليس كما في سائر البلاد العربية التي ليس هذا المصطلح فيها سوى مرادف لكلمة أمر حتى لا يخطئ من يقرؤني من الأشقاء العرب. ولقد صدرت مراسيم ليس الوقت أبدا ملائما لها مثل المرسوم عدد 4 لسنة 2011 المؤرخ في 19 فيفري/فبراير 2011 ذالك المتعلق بالموافقة على انضمام الجمهورية التونسية إلى نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وإلى اتفاق امتيازات المحكمة وحصاناتها. وهي المحكمة التي أثارت العديد من الاعتراضات والموضوعة أساسا للبلدان المستضعفة مثلنا حتى يتدخلوا في شؤوننا. وإلا لِمَ لَمْ تحاكَمْ أمريكا ورؤساؤها بعد أن تبين أن غزوهم للعراق لم يكن له من مبرر سوى نهب ثروات العراق. ثم ما الذي ألجأهم إلى ذلك ونحن نمر بفراغ دستوري وبرلماني. أما كان أجدى بهم وبنا وبالأحزاب الانتظار لوقت يكون لنا فيه برلمان منتخب حتى نوافق على مثل هذه المحكمة. والغاية معروفة لا سيما حين نقف على موافقة هذه الحكومة ودون برلمان على قروض ستورط البلاد لعقود طويلة في تبعية قاتلة وتصادر حق الأجيال في العيش الحر الكريم. لقد حصلت على هذه القروض بالشروط المجحفة التي رفضتها مصر حتى تحل المشكل الاقتصادي الذي عجزت عن حله بل الذي فاقمت منه سياستها العاجزة. والحقيقة هي أن مشاكل البلاد الاقتصادية تتفاقم يوما بعد يوم وحكومة تصريف الأعمال تتصرف بشكل مطلق والنخبة إن صح أنها نخبة غائبة تماما. بل من نودي منها سعى سعيه. ولكن من الواضح اليوم أن الشعب غير راض على شيء وخصوصا على طريقة انتخاب المجلس الوطني الذي أرضى أحزاب بن علي القديمة والجديدة لأنها ضعيفة وليست شعبية وهي المتعطشة للسلطة إلى حد المرض تريد بأي شكل من الأشكال أن تحصل على موقع قدم في المجلس الوطني التأسيسي وكأن هذا برلمان. ولن أتعرض هذه المرة للمرسوم عدد 14 المنظم للسلطات العمومية. إذ إني سأفرده بدراسة وافية مقارنا إياه بنفس المرسوم المنظم لنفس السلطات بعيد الاستقلال. وقصارى قولي هو أننا كما تركنا بورقيبة يتصرف بشكل فردي فأدى بنا ذلك إلى ما نحن فيه اليوم كما سيقع لنا لاحقا إذا لم نرفض هذه الطريقة الخاطئة في التأسيس. ولقد أصدر بورقيبة مجلة الأحوال الشخصية دون برلمان ودون انتظار المجلس التأسيسي أو دون عرضها عليه لاحقا. والأغرب في الأمر كذلك هو أنه أصدر قانون الجمعيات الذي حوكم به الكثير من المناضلين ضد الاستبداد قبل يوم واحد من انتخاب أول برلمان تونسي ألا وهو مجلس الأمة كما كان يدعى وقتها أي يوم 7 نوفمبر 1959 وتمت الانتخابات البرلمانية يوم 8 نوفمبر من نفس العام. وهو إذ أتى هذا المأتى كان في مقام من قال لهم ليست لكم أدنى سلطة فوق سلطتي. وتلك كانت منه رسالة بأن دورهم ليس إلا شكليا وكان لا بد لهم من أن يدركوا الدرس. وقد فعل ذلك كله وبطانته تصفق له رغم فرنكفونيتهم، فنستغرب كيف لأبناء الثقافة الفرنسية أن يتصرفوا بهذا التصرف؟ كيف لم يتعلموا شيئا من فولتير وروسو ومنتسكيو وديدرو؟ لماذا هذا العجز عن مجاراة الثقافة التي تثقفوا بها؟ لماذا لم ينقلوا الديمقراطية الغربية إلى بلدهم؟ لماذا زوّروا الانتخابات؟ وحلّوا الأحزاب؟ ولماذا صفّق الغرب لهم ؟ هذا ما يتطلب المراجعة والنظر فيه من جديد. وما لم نفعل سنظل نعيد إنتاج نظام الاستبداد عينه.