جاءني اليوم الأستاذ عبد العظيم ليلقي علي الدرس الثالث في المنطق وقد انفضّ من حوله تلاميذه من أشقياء السياسة. إلا أنه قبل أن يفعل ألقى علي درسا في الأخلاق. فقال: اسمع يا ثقيف! إذا وجدت العالم فاقدا للرشد فلا تسعى إلى إعادته إليه. فالرشد لا يعود البتة. إذ العقل إذا ما تلف تلف نهائيا فقلت: وماذا تعني بقولك هذا. فأجاب: تلف المنطق سيّ الجنون تماما. فقلت: وما الحل؟ فأجابني قائلا: لا حل. وإنما عليك أن تضحك حتى الجنون. فيجن جنون الآخرين. ولتعب ولتهزل. فإنما الحياة في الهزل والنصب. ولتسمع هذه الفزورة حتى تروح على نفسك من ثقل دروس المنطق: من هو الداخل الخارج والداخل الخارج والداخل الخارج أبدا حتى أجل؟ فأجبته: الشهقة. فقال: أخطأت. فقلت: وما الحل؟ قال: هو النزق يظل داخلا خارجا في النول بين يد النساج حتى يتقطع به خيطه. فيخرج عن قضائه ويسقط بعيدا خارج النول. ثم طرح علي فزورة ثانية. فقال: ومن لا يدرك أن البئر بئر حتى يسقط فيها؟ فأسرعت بالجواب: المؤتمر. فأجاب قائلا: أو تحسبني في الهند. بل قل «القردل» فهو يظل هابطا صاعدا في البئر دون أن يدرك أن البئر بئر حتى إذا تقطع به حبله وهوى في قاع الماء أدرك حقيقة النزول والصعود تباعا. ثم ألقى علي فزورته الثالثة. فقال: في الثالثة يذهب كل شيطان. هل تعرف ما يُملأ ويُفرّغ أبدا حتى أجل؟ فقلت: قريقوار. فأجابني: أو تحسبك مع بطل قصة مدينتين لديكنز؟ بل هو التبسي يظل يُملأ بالكسكسي أو بغيره ويُفرغ حتى إذا تكسر وآل إلى شقف متنافر أدرك أنه مجرد حاوية مقعّرة. وههنا قلت له حتى أعارضه: بل الحلاب. فأجاب: أجدت. بل الحلاب والمشرب والقدر والبُقال والحالبية والدلو و«الغرغاز» وغيرها من الحاويات المقعرات. وماذا تسمي ذلك يا أستاذ ثقيف؟ فقلت: تخريجا لغويا. فقال: بل لا. إنه الدرس الجديد في المنطق وهو الانطلاق من الخاص إلى العام أو عكسه. وذلك كأن يقول قضاتنا الأفاضل آخر ما تبقى من الشرعية: إن حكومة وقتية ليس من شأنها أن تصدر مرسوم المحاماة لأنها حكومة وقتية. فتعمم أنت الحكم لتقول: إن حكومات تصريف الأعمال لا تصدر مراسيم على التعميم. ثم أضاف قائلا في شيء من الحسرة: وهكذا تصبح مفكرا يتميز بروح نقدي. ثم ذهب لا يلوي.