حركة الشعب معنية بالإنتخابات الرئاسية    جلسة عامة للبرلمان غدا الثلاثاء، للنظر في تنقيح قانون يتعلق بمراكز الاصطياف وترفيه الاطفال، وتوجيه سؤال شفاهي الى وزيرة المراة    عاجل/ حزب الله يشن هجمات بصواريخ الكاتيوشا على مستوطنات ومواقع صهيونية    الرابطة الأولى: برنامج مباريات الجولة الثانية إيابا لمرحلة التتويج    حذرت من معاناة الآلاف.. الأونروا "لن نخلي مواقعنا برفح"    اليوم: الأساتذة يحتجّون رفضا للتدخل في الشأن التربوي    مطالب «غريبة» للأهلي قبل مواجهة الترجي    صادم: قاصرتان تستدرجان سائق سيارة "تاكسي" وتسلبانه تحت التهديد..    اليوم: طقس بمواصفات صيفية    جندوبة .. لتفادي النقص في مياه الري ..اتحاد الفلاحين يطالب بمنح تراخيص لحفر آبار عميقة دون تعطيلات    أنباء عن الترفيع في الفاتورة: الستاغ تًوضّح    «الشروق» في حي السيدة المنوبية كابوس... الفقر والعنف والزطلة!    القصرين .. بحضور وزير أملاك الدولة والشؤون العقارية ..يوم دراسي حول مشروع مضاعفة الطريق الوطنية عدد 13    ثورة الحركة الطلابية الأممية في مواجهة الحكومة العالمية ..من معاناة شعب ينفجر الغضب (1/ 2)    إسرائيل وموعظة «بيلار»    زلزال بقوة 5.8 درجات يضرب هذه المنطقة..    عاجل/ مقتل شخصين في اطلاق نار بضواحي باريس..    تستقطب سنويا آلاف الزوار..    الموت يغيب الفنّان بلقاسم بوقنّة..وزارة الشؤون الثقافية تنعى..    بطولة الرابطة المحترفة الاولى (مرحلة التتويج): برنامج مباريات الجولة السابعة    قوافل قفصة مستقبل المرسى (1 0)... انتصار العزيمة والاصرار    طولة ايطاليا : جوفنتوس يتعادل مع روما ويهدر فرصة تقليص الفارق مع المركز الثاني    تنس: الروسي اندريه روبليف يتوّج ببطولة مدريد للماسترز    القيروان ...تقدم إنجاز جسرين على الطريق الجهوية رقم 99    مصادقة على تمويل 100 مشروع فلاحي ببنزرت    طقس اليوم: ارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة    تقلبات جوية منتظرة وأمطار رعدية غدا..#خبر_عاجل    عمر كمال يكشف أسرارا عن إنهاء علاقته بطليقة الفيشاوي    تونسي المولد و النشأة... ترك تراثا عالميا مشتركا .. مقدمة ابن خلدون على لائحة اليونسكو؟    اليوم: لجنة الحقوق والحرّيات تستمع لممثلي وزارة المالية    أهدى أول كأس عالم لبلاده.. وفاة مدرب الأرجنتين السابق مينوتي    وزارة الشؤون الثقافية تنعى الفنّان بلقاسم بوڨنّة    اجتماع أمني تونسي ليبي بمعبر راس جدير    صفاقس: إحباط 22 عملية حَرْقة والقبض على 10 منظّمين ووسطاء    سوسة: منفّذ عملية براكاج باستعمال آلة حادة في قبضة الأمن    تونس تتحفظ على قرارات قمة منظمة التعاون الإسلامي حول القضية الفلسطينية    وزير الشّؤون الدّينية يختتم الملتقى التّكويني لمؤطّري الحجيج    جمعية مرض الهيموفيليا: قرابة ال 640 تونسيا مصابا بمرض 'النزيف الدم الوراثي'    فص ثوم واحد كل ليلة يكسبك 5 فوائد صحية    تستور: الإحتفاظ بعنصر إجرامي مفتش عنه من أجل " سرقة مواشي والإعتداء بالعنف الشديد ومحاولة القتل".    الاثنين : انطلاق الإكتتاب في القسط الثاني من القرض الرقاعي الوطني    حقيقة الترفيع في تعريفات الكهرباء و الغاز    مختصّة في أمراض الشيخوخة تنصح باستشارة أطباء الاختصاص بشأن أدوية علاجات كبار السن    للمرة ال36 : ريال مدريد بطلا للدوري الإسباني    ظهرت بالحجاب ....شيرين عبد الوهاب تثير الجدل في الكويت    لتحقيق الاكتفاء الذاتي: متابعة تجربة نموذجية لإكثار صنف معيّن من الحبوب    هند صبري مع ابنتها على ''تيك توك''    غدًا الأحد: الدخول مجاني للمتاحف والمعالم الأثرية    منع مخابز بهذه الجهة من التزوّد بالفارينة    لهذا السبب.. كندا تشدد قيود استيراد الماشية الأميركية    "سينما تدور".. اول قاعة متجوّلة في تونس والانطلاق بهذه الولاية    فتحي عبدالوهاب يصف ياسمين عبدالعزيز ب"طفلة".. وهي ترد: "أخويا والله"    رئيس اللجنة العلمية للتلقيح: لا خطر البتة على الملقحين التونسيين بلقاح "أسترازينيكا"    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    خطبة الجمعة ..وقفات إيمانية مع قصة لوط عليه السلام في مقاومة الفواحش    ملف الأسبوع .. النفاق في الإسلام ..أنواعه وعلاماته وعقابه في الآخرة !    العمل شرف وعبادة    موعد عيد الإضحى لسنة 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أزمة القطاع العمومي السمعي البصري ومستقبله في الوطن العربي
د. رضا النجّار (خبير اعلامي)
نشر في الشعب يوم 27 - 08 - 2011

يعيش القطاع العمومي السمعي البصري في كامل أنحاء العالم أزمة عميقة ومتشعّبة العوامل:
٭ أزمة منافسة من جرّاء منافسة القطاع الخاص الداخلي (إن وُجد) من ناحية، ومنافسة القنوات الأجنبية المتدفّقة بعد سقوط الحدود الجغرافية أمام انفجار البث الفضائي.
٭ أزمة جمهور في تجزئة جمهور المستمعين والمشاهدين إلى فسيفساء متعدّدة الاهتمامات والاختيارات في مشاهدتها الفردية للبرامج.
٭ أزمة تمويل وامكانيات مادية وبشرية وتقنية أمام تقلّص المواد العمومية وامكانيات الدولة التي تواجه تحدّيات أكثر جسامة في مجال النمو وتوفير الحاجيات الحياتية للشعوب.
٭ أزمة هيكلة في مجال أنظمة التسيير ومرونة التصرّف.
٭ أزمة ضيق مجال حريّة التحرّك والمبادرة في خضوعها إلى إشراف الهياكل الوزارية والحكومية.
٭ أزمة هويّة من حيث المهام والوظائف المنوطة بعهدته.
٭ أزمة مصداقية من حيث موضوعية واستقلالية الإعلام والأخبار.
وقبل أن نحلّل جوانب هذه الأزمة الموسومة بالتشعب وتداخل أطرافها، يجدر بنا أن نتوقّف أوّلا عند تحديد مصطلح «القطاع العمومي» السمعي البصري.
تعريف القطاع العمومي السمعي البصري
ماهي المؤشرات التي يمكن اعتمادها لتعريف القطاع العمومي السمعي البصري؟
لقد اتفق كلّ الخبراء في المجال على اعتماد المؤشرات التالية:
مصدر التمويل: هل أنّ موارد المؤسسة السمعية البصرية متأتية من أموال عمومية (خزينة الدولة) أو ضريبة (إتاوة) يدفعها المواطنون في مقابل «الخدمة» السمعية البصرية؟
الهياكل المشرفة إداريا: هل تخضع المؤسسة إلى إشراف وزارة أو هيكل عمومي آخر (مثل المجالس العليا لتعديل وتنظيم القطاع؟).
مسؤولية وطريقة تعيين المشرفين على رأس المؤسسة وأعضاء مجالس الادارة (إن وُجدت أو مجالس البرمجة (ان وُجدت أيضا): هل تعيّنهم مباشرة الدولة أو الوزارة المشرفة؟
الخضوع إلى كرّاس شروط (أو ما يسمّى في المغرب «دفتر التحمّلات»): هل تخضع المؤسسة إلى كرّاس شروط يضبط بالتفصيل وظائفها والخدمات المطلوبة منها في مجال الاعلام والثقافة والترفيه وخدمة المجتمع الذي تنتمي إليه؟
فالحالات الأكاديمية قليلة جدّا، حيث ان كل بلد شرّع للقطاع بطريقته الخاصة، طبقا لواقعه الخاص وإرثه السياسي والثقافي والتشريعي.
بحيث نجد أحيانا ان كل هذه المؤشرات مجتمعة في الحالة الواحدة لا نجد الاّ البعض منها في ذات الوقت.
وضع القطاع العمومي السمعي البصري العربي
احتكر القطاع العمومي تاريخيا المجال السمعي البصري في كامل البلدان الأوروبية والعربية (باستثناء لبنان) على خلاف عدم وجودة منذ البداية في الولايات المتحدة، اذ ابتدأ النشاط السمعي البصري في صيغته الخاصة.
وبينما سنّ المشرّع قوانين، نسبيّا، تحرّرية لقطاع الصحافة المكتوبة، اختار أن يخضع القطاع السمعي البصري لاحتكار الدولة خوفا من صبغته الجماهيرية وقوّة تأثيره على الجماهير، سيّما ان كانت في أغلبيتها أمّية.
وعلى اختلاف الأنظمة السياسية والتقاليد التشريعية بين بلدان الوطن العربي، فقد نجد ان كل المؤشرات التي ذكرناها سابقا مجتمعة دون استثناء في أغلب الهيئات «العمومية» العربية.
ولم يُفتح المجال السمعي البصري، تاريخيا، لمنافسة القطاع «العمومي» الاّ عقب استحالة حماية الفضاء الوطني، بعد ظهور البث الفضائي، بحيث لم يبرز القطاع الخاص في الوطن العربي (باستثناء لبنان كما ذكرنا) الاّ في أواخر التسعينات.
هذا وقد اختار بعض الأقطار العربية، ان تحتفظ الى حدّ الآن باحتكار الدولة في هذا المجال (الجزائر مثلا).
يجرّنا هذا الوضع إلى التساؤل حول حقيقة وجود «قطاع عمومي» في الوطن العربي، قطاع عمومي بمعنى «المرفق العمومي» أو «الخدمة العامة». فبما أنّ تمويل كل الهيئات العربية متأتّ امّا من خزينة الدولة (ومصدرها من الضرائب التي يدفها المواطنون) أو من ضريبة على امتلاك أجهزة الالتقاط، هل يحقّ للمواطن العربي ان يطالب بمرفق عمومي حقيقي، على غرار ما يوجد في بعض البلدان الديمقراطية؟
أزمة القطاع العمومي العربي
يشكو القطاع «العمومي» العربي من عدّة مشاكل أهمّها:
٭ الخضوع التام إلى سلطة التنفيذية التي تضع الأطر القانونية والهيكلية وتفرض طرق التصرّف الإدارية على قطاع يحتاج الى المرونة وخدمة الابداع.
كما تعيّن الحكومة المسؤولين الاول على القطاع وتراقب سياسة البرامج والخط التحريري للإعلام والعلاقات الخارجية للمؤسسة.
٭ ثقل عدد الموظفين والعاملين في المؤسسة مع تواضع المكافآت والرواتب، ممّا انجرّ عنه هجرة الكفاءات والمبدعين والتقنيين والصّحافيين نحو القطاع الخاص، الداخلي والخارجي.
٭ صلابة أطر وأنظمة التصرّف الاداري من حيث الشراء والبيع والمراقبة المالية المسبقة وضرورة اعتماد الصفقات العمومية ومقارنة الأسعار.
٭ تقلّص الموارد المالية أمام انخفاض مردود ضريبة امتلاك الأجهزة، بسبب تجميد قيمتها من قبل السلط السياسية من ناحية، وجرّاء «إشباع» سقف الامتلاك داخل العائلة العربية من ناحية أخرى.
٭ ارتفاع كلفة البرامج انتاجًا وشراء، لا سيما منا الدرامية والرياضية، اذ شهدت حقوق بث التظاهرات الرياضية ارتفاعًا مذهلا منذ التسعينات (3).
٭ عدم القدرة على منافسة القطاع الخاص من حيث الامكانات وسرعة أخذ القرار والتحرّك.
ونتيجة لهذه العوامل مجتمعة، فقد القطاع العمومي قسطا كبيرا من المصداقية ومن الجماهير التي اتجهت نحو البرامج الجذّابة للقطاع الخاص التي يغلب عليها الجانب الترفيهي.
بل وفقد القطاع العمومي كذلك وزنه «الكمّي» من حيث عدد القنوات والعرض البرامجي.
فبينما كان محتكرا كل المجال في أوائل التسعينات فإنّ القطاع العمومي لا يمثّل في عام 2003 سوى 13% من العرض العربي الفضائي.
جاء ذلك الإحصاء في تقرير اللجنة العليا للتنسيق بين القنوات الفضائية العربية، اذ تمّ إحصاء 696 قناة عربية من بينها 97 عموميّة، و599 خاصّة (87%) (1).
فخ محاكاة القطاع الخاص
وممّا زاد الطين بلّة، ان القطاع العمومي وقع في فخّ محاكاة القطاع الخاص، من حيث سياسة البرمجة ونوعية البرامج، مُتناسيا وظائفه الأساسية وباحثا عن قسط أوفر من كعكة الاعلان التجاري (إن وُجد الاعلان التجاري في القطاع).
هذا ما حدث في تونس مثلا، اذ نزل القطاع العمومي في العشرية الأخيرة إلى منطق «السوق» والركض وراء «المتفرّجين» بوصفهم العملة التي «يبيعها» الى المعلنين، متناسيا في ذلك انّ القطاع العمومي يخاطب «المواطن» بينما يخاطب القطاع الخاص «المستهلك».
فمنطق القطاع الخاص معقول من حيث هدفه التجاري: فهو «يبيع» نسبة مشاهدته كسلعة للمعلنين ولا يهمّه في ذلك مستوى البرامج ووظائفها الاعلامية واالتعليمية والتثقيفية.
والدليل على ذلك الجدول الموالي الذي يُظهر نوعيّة القنوات الفضائية العربية:
جدول عدد 1
وتجدر الاشارة في هذا الجدول إلى العمود الثالث، اذ نجد أنّ عدد القنوات الترفيهية طاغيا كلّيا على القطاع الخاص. من ذلك انّ القنوات المتخصّصة في الموسيقى والمنوّعات مثلا بلغ عددها 112 في القطاع الخاص، مقارنة بقلّة عددها في القطاع العمومي.
وتجوز نفس الملاحظة فيما يتعلّق بالقنوات الدرامية (6 في القطاع العمومي مقابل 61 في القطاع الخاص، والقنوات الرياضية (15 في القطاع العمومي مقابل 41 في الخاص).
فهل من وظائف القطاع العمومي ان يحاول اكتساب أكبر نسبة من المشاهدة؟ وهل من وظائفة أن يركض وراء الاعلان والربح التجاري؟ كلاّ ثمّ كلاّ!
وللأسف، وقعت عدّة هيئات عمومية في فخّ محاكاة القطاع الخاص. وحدث ذلك في كل بلدان العالم.
ففي البلدان الأوروبية مثلا، أبرزت ذلك دراسة علمية نشرت سنة 1994 تحت عنوان «التلفزيونات العمومية تبحث عن مستقبل» قامت بها مجموعة من الباحثين على رأسها Yves Achille (2).
وقد قارنت هذه الدراسة تطوّر وظائف التلفزيونات العمومية في العشرية 1980 1990 وانتهت الى النتيجة التالية:
جدول عدد 2
يُظهر هذا الجدول ان نسبة الترفيه ارتفعت عند جميع القنوات العمومية الأوروبية (مع نسبة هائلة في القناة الايطالية RAI)، باستثناء القناة البلجيكية الفرنكوفونية RTBF والقناة الألمانية ZDF.
ولكن الجدول يبرز أيضا تنوّع الاستراتيجيات المتّبعة من قبل القنوات العموميّة الأوروبية في مواجهة القطاع الخاص.
فهي تنقسم حسب ما أظهرته الدراسة الى اتجاهات أربعة:
٭ استراتيجية عدم التحرّك لعدم توفّر الامكانيات لذلك أو الصمود على المبادئ: وقد توختها القناة البلجيكية الفرنكوفونية RTBF والقناة الألمانية ZDF (والقناة الألمانية الأخرى ARD التي لم تظهر في جدولنا).
٭ سياسة المواجهة الجزئية التي اعتمدتها القناتان الفرنسيتان الثانية والثالثة بحيث تقاسمتا المهام. ففي حين انّ القناة الثانية حاولت مواكبة القطاع الخاص، توخّت القناة الثالثة دعم الجانب التربوي على حساب الترفيه.
٭ سياسة المواجهة المباشرة، وقد اعتمدتها BBC في قناتها الأولى (وفي قناتها الثانية التي لا تظهر في جدولنا) وذلك بالترفيع في برامج الترفيه، مع تعزيز وظيفة الاعلام والمحافظة على نسبة البرامج التربوية.
٭ سياسة المحاكاة التامّة عند القناة الايطالية RAI والقناة الاسبانية RTVE اللتين اتجهتا نحو محاولة منافسة القطاع الخاص في رقعته الترفيهية.
من هنا جاءت استراتيجيات القنوات العمومية الأوروبية في مواجهتها للقطاع الخاص مختلفة تماما، وذلك داخل نفس البلد أحيانا، والذي يفسّر هذا الاختلاف هو تباين القوانين الأساسية للهيئات ومصادر التمويل وخصائص السوق الإشهارية.
مستقبل القطاع العمومي العربي
هل للقطاع العمومي العربي مستقبل في المشهد السمعي البصري؟
هل يمكن لهذا القطاع منافسة القطاع الخاص؟
أيّ استراتيجية برامجية تضمن للقطاع العمومي مكانة محترمة لدى مشاهدي بلده؟
هل يمكن الحلّ في محاكاة القطاع الخاص وفي اتباع سياسته التجارية؟
٭ وماهي التحوّلات القانونية والهيكلية والاعلامية الكفيلة بضمان نقلة نوعية وانطلاقة جديدة للقطاع العمومي؟
تلك هي الأسئلة الحيوية التي لابدّ أن يطرحها القطاع العمومي على نفسه لضمان مستقبله بجانب العروض الخاصّة الوطنية والأجنبية.
ففي الحالة المعيشة، هناك سيناريوها متعدّدة:
٭ إمّا أن يتغلّب منطق القطاع الخاص على المشهد السمعي البصري بأسره، ويذوب القطاع العمومي في لعبة السوق، وقد نجد أصواتا تنادي بحلّ القطاع العمومي والتفويت فيه، ببيعه الى الخواص بدعوى أنّ الدولة ليس من دورها إدارة إذاعة أو تلفزيون أو صحيفة أو وكالة أنباء.
٭ وإمّا أن يبقى القطاع العمومي ذلك الشيخ الهرم الذي يعيش على ذكريات الماضي ونجاحات عهد الاحتكار ويهمّش إعلاميّا وثقافيا وترفيهيا أمام امكانات القطاع الخاص، وقد يقع ذلك إن واصلت الدولة مطالبة القطاع وفي ذات الوقت بأداء مهام «الخدمة العمومية» دون وضع الدعم المالي الكافي للقيام بتلك المهام.
٭ أمّا السيناريو الثالث، وهو ما نتمنّاه فهو أن تسنّ السلطات العمومية تشريعات واضحة تعطي للقطاع العام نفسا جديدًآ وتمكّنه من الوجود والتكامل مع القطاع الخاص، لكل مهامه ووظائفه، ولكل سياسته وإمكاناته.
الإطار القانوني والمالي
آن الأوان في الوطن العربي أن تنشأ هيئات عليا لتعديل القطاع السمعي البصري وتنظيمه، على غرار ما يوجد في كل البلدان الديمقراطية وعلى غرار التجربة المغربية الرائدة (انظر مقال الأستاذ أحمد الغزلي في هذا العدد).
وتكون تركيبة هذه الهيئات تعدّدية تمثّل كامل حساسيات المجتمع وتعمل بكل استقلالية في كنف الشفافية.
وتبدأ هذه الهيئات بسنّ قانون يؤطّر الاعلام السمعي البصري ويضع أسس التعدّدية في القطاع، بحيث يكون هناك توازن في المشهد الاعلامي بين القطاع العمومي والقطاع الخاص وحتى القطاع الجمعياتي.
كما يضمن هذا القانون مسألة تمويل القطاع العمومي وطرق تسمية مسؤولية وحريّة خطّه التحريري ويُعرّف بالوظائف المنوطة بعهدته من:
اعلام.
تربية وثقافة.
ترفيه.
خدمة واحترام التعدّدية السياسية والفكرية للمجتمع.
خدمة ودعم اللحمة الاجتماعية داخل الوطن الواحد.
أمّا على صعيد التمويل، فالمسألة المطروحة تكمن في إيجاد موارد جديدة للقطاع العمومي تمكّنه من مواكبة التطور التكنولوجي وإنتاج البرامج الراقية دون الانشغال بمنطق السوق وبمواكبة «الذوق الأدنى» للحصول على نسب المشاهدة وعلى الموارد الإشهارية.
فالمسألة مطروحة هنا حول امكانية امّا حذف الاعلان التجاري من القطاع العمومي، وترك كامل الكعكة الاشهارية لقطاع الخاص (مع تعويض الخسارة المتأتية بالطبع) أو تحديد سقف أقصى للمداخيل الاشهارية بالنسبة الى القطاع العمومي.
والقرار الذي اتخذته السلط الفرنسية يتجّه نحو حذف الاعلان التجاري على مراحل من القطاع العمومي.
وبذلك يتحرّر القطاع العمومي كلّيا من المنافسة التجارية مع القطاع الخاص، وينصرف الى الاعتناء بجودة البرامج الاعلامية والثقافية وحتى الترفيهية، لأننا لا نطالب ببرامج عمومية مُملّة وفقيرة.
وقد يدافع القطاع الخاص بشدّة عن هذا الحلّ بدعوى أنّ القطاع العمومي يتمتّع كذلك امّا بالأداء على امتلاك الأجهزة أو بدعم الدولة المباشر أو بالمورديْن مجتمعيْن.
وقد يقول الخواص انّه ليس من العدالة أن يزاحمهم القطاع العمومي على الكعكة الاشهارية بعد هذا الدعم المباشر من السلط العمومية.
ولأخذ فكرة عن حجم هذا الدعم العمومي، نسوق أرقام القطاع السمعي البصري التونسي كمثال:
هناك في تونس قطاع عمومي سمعي بصري متمثل في مؤسسة وطنية للتلفزيون تمتلك قناتين وطنيتين تبثّان أرضيا وعبر السواتل، ومؤسسة وطنية للإذاعة الصوتية تمتلك أربع قنوات اذاعية وطنية وخمس قنوات محليّة (جهوية).
أمّا القطاع الخاص فيتمثّل في قناتين تلفزيونيتين (حنبعل ونسمة) وخمس قنوات اذاعة خاصة.
ولكنّ هذا المشهد بصدد الانفجار كميّا، لأنّ ثورة (14 جانفي 2011) حرّرت الكلمة وستمكّن من بروز عناوين صحافية جديدة وقنوات اذاعية وتلفزيونية أخرى كلّها خاصّة. وقد بلغ الى حدّ الآن عدد مطالب الاذاعات الصوتية 76، بينما بلغ عدد المطالب التلفزيونية 26 مطلبا.
فهل تمكّن الكعكة الإشهارية للسوق التونسي الضيّق (11 مليون ساكن من استمراريّة كامل هذه الوسائل الإعلاميّة الخاصّة؟
جدول عدد 3
تبلغ ميزانية التصرّف لمؤسسة التلفزيون التونسي ما يعادل 50 مليون دينار تونس (سنة 2011) متأتية من:
منحة الدولة المباشرة: 14 مليون دينار.
مداخيل الضريبة على الأجهزة: 22 مليون دينار.
مداخيل الإعلان التجاري: 14 مليون دينار.
والجدير بالذكر أنّ الدولة تتكفّل مباشرة بميزانية التجهيز.
نلاحظ هنا أنّ مداخيل الإعلان التجاري في انخفاض مقارنة بالسنوات السابقة، حيث بلغت سنة 2006: 19 مليون دينار وذلك يرجع الى أسباب خارجية تتعلّق بسيطرة شركة خاصة على قطاع الإنتاج والإشهار كانت على ملك أفراد من عائلة الرئيس المخلوع.
تمثّل مداخيل الاعلان التجاري اذن ما يناهز 28% من ميزانية التصرّف، بينما تمثّل مداخيل الضريبة على امتلاك أجهزة الالتقاط التي يدفعها جميع المواطنين في فاتورة الكهرباء 44% من تلك الميزانية.
فهل يمكن للخزينة العمومية في تونس أن تتخلّى عن موارد الإشهار وأن تعوّضها لمؤسسة التلفزيون (والإذاعة في ذات السياق؟).
وهل يمكن أن نرفّع في معاليم ضريبة امتلاك الأجهزة لتعويض الموارد الإشهاريّة؟
تلك عمليّة صعبة في الظروف الحالية للاقتصاد التونسي الذي يواجه تحدّيات جسيمة بعد ثورة 14 جانفي.
ويمكن القول بوضوح، انّه لا يوجد حلّ مثالي لهذه المشكلة، فلكل بلد ظروفه وإمكاناته. ومن المستحسين ان يُترك قسط وافر من الإعلان التجاري إلى القطاع الخاص، ان تمكّن من ذلك موارد الخزينة العمومية أو موارد الضريبة على امتلاك الأجهزة (إن وُجدت).
وهنا يأتي دور المشرّع (الهيئات العليا لتعديل القطاع) التي يمكن لها أن تضع سقفا أقصى لمداخيل الاعلان التجاري في القطاع العمومي، كما أنّه من واجبها أن تحدّد الفترة الزمنية القصوى للإعلان التجاري في كامل القنوات، بما في ذلك القنوات الخاصة تفاديا «للتخمة» الإشهارية التي عاشها المشاهدون مثلا في تونس خلال شهر رمضان المعظم لسنة 2010، إذ تجاوزت مدّة الاعلان التجاري أحيانا 25 دقيقة في الساعة الواحدة.
وللمشرّع كذلك أن يمكّن القطاع العمومي من مرونة التصرّف والتحرّك والمبادرة حتى يجد لنفسه موارد أخرى متأتية من بيع البرامج، ولمَ لا من بعث قنوات مشفّرة متخصّصة تدرّ عليه مداخيل اضافية.
سياسة الإعلام
من المشاكل الكبرى للقطاع العمومي السمعي البصري أنّه فقد مصداقيته وثقة الجماهير به في مجال الاعلام، وذلك لخضوعه الكامل إلى سياسة السلطة التنفيذية ولتحويله إلى جهاز دعاية أحادية للنظام القائم.
فلقد ملّت الجماهير العربية تلك اللغة الخشبية التي لا علاقة لها بمشاغل الناس والواقع المعيش.
يقال للصحافي المتخرّة من معاهد الإعلام عند دخوله للقطاع: «انْسَ ما تعلّمته، هنا لا بدّ من احترام التعليمات واتباع البروتوكول المعتمد!».
فلا وجود لمباردة اعلاميّة دون الرجوع الى «أهل القرار» ولا اجتماع لأسرة التحرير لاختيار الأخبار وترتيبها حسب اهتمامات المشاهدين والمستمعين.
فيصاب الصحافي بالإحباط والخيبة، وسرعان ما يسلّم أمره للروتين والأشكال القائمة والرقابة الذاتية. ومن هنا تفاقمت الهوّة بين المواطن وأجهزته الوطنية الى حدّ أنّه انصرف يبحث عن أخبار بلاده في وسائل الاعلام الأجنبية.
وقد وصلت هذه الأزمة الى حدّ أنّ الأجهزة «الرسمية» أو «الحكومية» لا تصدّق حتى وان قدّمت الحقيقة! فإعادة بناء الثقة بين المواطن وقنواته الوطنية تتطلب إعادة النظر في سياسة الاعلام كليّا وجهدا مهنيا جبّارا يحتاج الى وقت طويل لاقتلاع تلك الثقافة الدعائية التي رسخت في الأذهان منذ عهود.
ويبدأ هذا التحوّل بحماية المسؤولين والصّحافيين والمؤسسة من هيمنة السلطة التنفيذية، وهنا يكمن أيضا دور المشرّع، اذ يجدر تحرير القنوات العمومية من التبعية الكاملة للحكومة، وحماية مسؤوليها وصحافييها وإعطاؤهم هامشا من الحرية في سنّ سياسة البرامج والخط التحريري للإعلام داخل المحطّة.
وفي هذا المجال كذلك، لا وجود لحلّ مثالي حيث اختار البعض إلحاق المؤسسات السمعية البصرية بالبرلمان، في حين ألحقها آخرون بالهيئة المشرفة على تعديل القطاع وُضع لها مجلس إدارة يمثّل كافة حساسيات المجتمع، خدمة للتعددية الفكرية والسياسية.
من أجل وجود «مرفق عمومي»
ومهما كان الحلّ المتّبع فلابدّ اليوم من أن يستفيق القطاع العمومي السمعي البصري العربي من سباته، وأن يضع استراتيجيات جديدة للنهوض بالقطاع وذلك علي جميع الأصعدة: القانونية والمالية والخطط البرامجية والسياسية الاعلامية والتكوينية.
فأمام العولمة الاقتصادية والغزو الثقافي المتمثّل في البرامج التي تمطرها الأقمار الصناعية والتي غزت أنماطها الانتاج العربي الخاص (ألعاب، منوعات، تلفزيون الحقيقة في أشكال تجارية مستوردة من الخارج وتنتج في البلدان العربية بأموال عربية) لا بدّ من إعادة التفكير في توزيع الأدوار بين القطاع الخاص والقطاع العمومي، بحيث يصبح هذا الأخير «مرفقا عموميا» في خدمة المواطنين والمجتمع، يقدّم الإعلام النزيه والتعدّدي والبرامج الراقية التي تهدّب الأذواق وتفتح الآفاق على الثقافة والعلم، تشرّع النوافد على مصراعيها على الحضارات الإنسانية، مع خدمة هويتها والمساهمة في إشعاعها واندراجها ضمن الثقافات الإنسانيّة.
فإذا اندثر القطاع السمعي البصري العمومي، فإنّه يُخشى على هويتنا وثقافتنا وحتى على لحمة مجتمعاتنا وسلامتها.
ذلك هو التحدّي الراهن للحكومات والهيئات العربية.
الهوامش:
1) التقرير السنوي 2009 للجنة العليا للتنسيق بين القنوات الفضائية العربية، اتحاد إذاعات الدول العربية، تونس، 2010.
2) نفس المصدر.
3) انظر: النجّار (رضا): حقوق نقل الأحداث الرياضية في التلفزيون، اتحاد إذاعات الدول العربية، 2009.
(4) Achille (Yves): Les televisions publiques en quete d›avenir, PUG, Grenoble, 1994.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.