يصف الفيلسوف الفرنسي المقاوم »بول نيزان«(*) أن رهطا من المثقفين حوّلتهم السلط المتسلطة وهم بطبيعة الحال على أتم الاستعداد لذلك إلى متقربين متملقين لأهل التجلة والمراتب لا همّ لهم سوى تطويع الوقائع والأحداث وفبركة الخطب والحقائق وفقا لما يرتضيه الحاكم، واستجابة لما تتطلبه مصالحه ومصالحهم أو بالأحرى أطماعهم، التي قد لا تتعدّى أحيانا أجرا مرتفعا أو مسكنا بالطابق الرابع، كان يمكن لهؤلاء المتملقين أن يحصلوا عليه بجهدهم وكفاءتهم. فالتملق لا يفسر بالامتيازات والمنافع العينية وحدها وإنما بمنظومة فكرية مؤسسة على الاصطفاف وراء الاقوى، والتهيؤ على الدوام للتموضع في مراكز الحكم والنفوذ بحثا عن اعتبار مفقود، لذلك يبدو هؤلاء في كل الأزمنة والعصور مقرفين وباعثين على الاشمئزاز والاحتقار لا هم ّ ولا دين لهم إلا اللهاث، وراء »اغراءات السلطة«وأطماع الحياة الدنيا فتراهم مسلوبي الإرادة والكرامة ومنحطين إلى ادنى درجات الوجود اللا انسانيّ، مثلهم الأعلى الاستبداد والنفاق، وشعارهم الأبدي »مات الملك، يحيا الملك« هكذا بدت واضحة للعيان وللجميع صورة السيد برهان بسيّس وهو يروج على شاشة فضائية خاصة صراحة مغشوشة وراحة مقرفة ليفوّت على نفسه مرة أخرى فرصة سانحة للصمت وليرسخ في الوعي الشعبي الجماعي القناعة بأن الذي رام السقوط والتملق والرياء والنفاق لا يمكنه أن يستعيد شيئا من الكرامة وعزة النفس والحياء، لقد بدأ كأولئك الذين وصفهم الامام على ابن ابي طالب»بأشباه الرجال، ولا رجال«. لقد كان ممكنا للسيد برهان بسيس وهو الذي قرر أن يقطع مع الصمت أن يعتذر للشعب التونسي، كل الشعب من دون مراوغة، أو تحيّل كما كان ممكنا له ان يلعن زمن سيّده ووالي نعمته »بن علي« الذي حكم الشعب طيلة ما يناهز الربع قرن بالحديد والنار، وأن يحرّر نفسه من وضع الحراسة، بالتأكيد على استعداده الكامل لتحمّل مسؤولية كل ما صدر عنه تجاه الشعب، ولكن هيهات أن تنال من منافق. ما يمكن ولو للحظة من استعادة وضع الانسانيّ فينا. فنقول ساعتها بحثا عن مصالحة مع الغير ومع ذواتنا»كلّ ما هو انسانيّ يعنينا«، ولكن هذا الرهط من البشر يذهب إلى اقصى حدود اغتيال الانسانيّ فينا، إنه محترف في »العيش بين الحفر« لذلك تراه من الحدّ إلى الحدّ يروج لخطاب سمته : 1) قيميّا : الانحطاط والرداءة عبر الاستعطاف وجلب الشفقة واعلان التوبة المغشوشة والاستعداد للانتقال إلى مملكة "الفرسان" ولست ادري عن اي فرسان يتحدّث هذا الجواد المنكوب ؟ ألا يصحّ ساعتها المثل العربيّ القائل »ان الطيور على اشكالها تقع« ؟ 2) سياسيا: إن هذا الخطاب اصرار وترصد على المضيّ قدما في الدعاية والترويج لسياسات الاستبداد والتسلط القائمة على الغش والمغالطة والتشهير والاستخفاف بعقول الناس واحتقار الآخر الذي يصل الى أتعس اشكال التزييف فالرئيس الهارب بن علي عنده هو الذي صنع الثورة. حين قرّر مغادرة البلاد ولما لا يضيف معه كل الهاربين من ذويه والمقربين منه، إنهم جميعا بمنطق السيد بسيس صنّاع للثورة وبما أنّ الشعب التونسي طالب بإلقاء القبض عليه ومحاكمته مع ذويه والمقربين منه وكلّ من تورط في نهب ثرواته وقتل ابناءه، يصبح الشعب إذن بحكم الضرورة مسؤولا عن اجهاض الثورة، إنها لحظة تعبير عن بؤس فكري مطلق، تذهب إلى أقصى درجات تبرير الاستبداد، وقلب الحقائق وتحويل الجلاد الى ضحية والضحية الى جلاد، هذا علاوة على الاستمرار الى اخر رمق في الاشادة بخصال من اجرم في حق الشعب والوطن، واعتباره بطلا ثوريا« وهو ما يعد بالمنطق الجزائي حث على الجريمة وتبرير لها، وسياسيا تبرير مطلق للاستبداد من النادر ان نجد له نظيرا في المواقف السياسية المعادية للحرية، فعند واحد من كبار المنظرين للدولة المستبدة. الانقليزيت»توماس هوبز « يبرر الاستبداد بالامن والسلم الاجتماعيين، اما عند السيد بسيس فالاستبداد يبرر ببطولات وحكمة الزعماء.. وتنتقل نقمته اللامصرح بها علنا ضد الشعب التونسي الى البعض من نخبه، محاولا التشهير وقاصدا التأليب بما أنه يتهم جمعا لا يستهان به من معارضي بن علي بالتفاوض معه وآخرين بعدم المطالبة باسقاط نظامه، وغيرها من التهم الاخرى التي ساقها في حديثه بغموض، وتلكؤ مقصودين عملا بالقاعدة القائلة » المصيبة اذا عمت، خفت« وعلى كل حال، فهذه اللحظة بدورها لا تختلف في شئ عن سابقتها، فالمجرم والمسؤول عن القمع والتنكيل بالمعارضين والزج بهم في السجون هو نظام بن علي وليس من فاوض او طلب التدخل يطرق غير مباشرة لاطلاق سراح سجين او طلب الكف عن القمع والترهيب، او اعادة مطرود لعمله او غيرها من الانتهاكات، وفيما عدا ذلك، فان صاحبنا مطالب بالافصاح عن الاوراق التي يدعي انه يتستر عليها امام القضاء، فهذه الحيل التي بات العديد من المتورطين يعتمدها لإرباك الراي العام وتضليل القضاء، لم تعد مجدية، ولن تجدي مروجيها، نفعا في التستر على تورطهم. وتمضي آلة بسيس الجهنمية في الاشتغال فيرفض الاعتذار للشعب التونسي ويكتفي بالاعتذار على حد قوله لعائلات الشهداء في قصرين، وسيدي بوزيد... وكأن هذه المناطق وهذه العائلات ليست الشعب التونسي، اذ الشعب في مفهومه المناضل اذا ما كثفناه هو الشهداء والابرياء والضحايا الذين اجرم في حقهم نظام بن علي على امتداد ربع قرن، وبالتالي فان محاولة التشكيك في وحدة الشعب وفي انتشار ثورته المجيدة في كل ربوع الوطن، هو مظهر آخر من مظاهر استمرار ثقافة بن علي في المواقف السياسية لهذا الرجل بعد مرور ثمانية اشهر على الثورة. وهو مرة اخرى تعبير عن حقد دفين تجاه الشعب، حقد ضد من كان وراء هروب ولي نعمته. وينهي السيد بسيس لوحته القاتمة بالاعلان عن توبته ، مستعرضا بنفاقه المعهود تواجده بالمسجد والحال ان الجميع يسال عن مكان وجوده، وكانه يريد اقناعنا بانه مقيم على الدوام ببيت الصلاة أليس هذا مرة اخرى نفاقا من طراز رفيع؟ ويمضي صاحبنا في حديث التوبة متحدثا عما يعتبرهم فرسانا ينوي الالتحاق بهم، وكانهم سيمكننونه من صك توبة مقبولة مذكرا إيانا بقساوسة الكنيسة الذين كانوا يوزعون صكوك الغفران على من ينالون رضاهم وعلى من يرضخون لاحكامهم. فهؤلاء الفرسان» لا يملكون حتى حق تبرئة انفسهم، ولا هم بفرسان الا في عقلك المتملق، الذي لا يمكن له ان يروج ويبرر خارج منطق الاصطفاف والاشادة، والشعب التونسي، بعيدا عن الثار والانتقام والضغينة، لن يفرط في محاسبة من اجرم في حقه ولن تنطلي عليه حيل المنافقين مهما زاد عددهم وتنوعت وسائل تضليلهم. فالفرسان الذين وفروا الدعم والحماية وسهلوا اللجوء لمحمد صخر الماطري سيساءلون على ما قاموا به وسيمنعون بارادة الشعب المناضل من توفير أي شكل من الحماية مستقبلا لكل من تورط مع نظام بن علي بشكل سافر وثبت تورطه. فثورتنا يجب ان تناى بنفسها عن الثار والانتقام والاساءة وان تكون في آن حذرة كل الحذر من خطاب النفاق والفرسان. (*) بول نيزان: فيلسوف وروائي فرنسي ولد سنة 1905 بمدينة تور الفرنسية» درس بالمدرسة العليا الى جانب ارون وسارتر. هاجر الى عدن سنة 1925 بعد ان اصابه العرف من النخبة الجامعية وانصرف الى الكتابة الصحافية والادبية بعد ان تخلى عن التدريس. ألف كتابه ''كلاب الحراسة« سنة 1932 الذي عد بمثابة الوثيقة المناهضة لثقافة التخاذل وانتهاك الحرية.