إنّ الرصد المفصّل واليقظ والصريح، لما آلت اليه نتائج انتخابات المجلس التأسيسي.. لا يبرّر اطلاقا الغرق في متاهات الصدمة والخيبة والنحيب والتباكي والتشاكي او تبادل التراشق بالمؤاخذات، بل انّ تلك النتائج النوعية تحتّم اكثر من اي وقت مضى انجاز المهام الاساسية التالية بحزم شديد وفعّال.. اليوم قبل الغد: 1 التفكيك الكامل لمفاصل الملابسات الأساسية والفرعية التي حصلت ضمنها تلك الانتخابات. 2 التحديد الدقيق للعوامل الموضوعية والذاتية (الداخلية منها والخارجية) التي ولّدتْ تلك النتائج. 3 الحصر الدقيق لمكامن محدودية المتانة الفكرية وضعف الخبرة السياسية والحنكة الميدانية التي ميزت الاحزاب والقوى الاجتماعية والمدنية والقائمات المستقلة الوطنية العريقة، التي ناضلت طيلة خمسين سنة في طليعة حركة المقاومة الاجتماعية والسياسية في مواجهة نظام مارس 56 وعصابة نوفمبر 87. 4 بذل مجهود ضخم فرديا وجماعيا لاستكناه ما حصل واستيعاب مظاهره ومفاجآته، وفهم طبيعته فهمًا واقعيا ملموسا، وليس فهما عاطفيا او نخبويا او انطباعيا...اي فهما جدليا متحرّكا. 5 الانخراط الفردي والجماعي في حملة وطنية واسعة من النقد الذاتي المتماسك والبنّاء وليس جلد الذات الانهزامي البائس... ❊ أ نتائج مثيرة لم ينتظرها حتى الفائزون بها إنّ النتائج التي باحت بها انتخابات المجلس التأسيسي، لا تتطلب بتاتا لا التهليل المبتذل ولا التصفيق البائس المتخلف كما انها لا توجبُ اطلاقا ترديد صيحات الفزع ودقّ نواقيس الطوارئ: فالطريق مازال في بدايته والدرب طويل طويل اكثر مما يتراءى للبعض: حيث أنّ الانتخابات ليس سوى محطّة أولى من محطّات مسار ثورة 14 جانفي المجيدة ولا تمثّل سوى الطوار الاوّل من أطوار المسار الثوري الوطني الاجتماعي ولكنّ نوعية النتائج الحاصلة تحتّم وجوبًا وفورًا، النّضال الفردي والجماعي نحو تثبيت ذلك المسار الثوري المدني وتجذيره وتعميقه وتحصينه والدفاع عنه بنفس وهج 17 ديسمبر المفصلي ونفس استماتة 14 جانفي الباسلة... انّ تاريخية الانتخابات المباشرة الطّاهرة واللجوء إلى صناديق الاقتراع النظيفة لم تضمن في أيّ بلد من بلدان العالم، لا نزاهة تلك الانتخابات ولا مصداقيتها ولا تعبيرها الخالص عن الارادة الشعبية الواعية المتحرّرة من الضغوط والمساومات وشراء الذمم الضعيفة والاكراه النّاعم... وضمن هذا السياق التاريخي تحديدا، تتذكّر البشرية جمعاء بأجيالها المتعاقبة، تفاصيل الانتخابات وملابساتها في ألمانيا، والتي عبر صناديق اقتراعها تبوّأ ادولف هتلر السلطة وصعدت النازية الدموية واكتسحت العالم وخاضت حروبا مدمّرة وفتكت بالبشر والشجر والحجر... حيث دفع عشرات الملايين من البشرية البريئة فاتورة ضخمة لتلك الحروب... كما أنّ الذاكرة الجماعية العالمية تعلم جيدا انّ الانتخابات وصناديق الاقتراع لا تأتي دائما بالممثلين الغيورين على حقوق الشعوب والاوطان بل تأتي ايضا (وفي اغلب الحالات) بالاباطرة والقياصرة والطغاة والمستبدّين ومصّاصي عرق الشعوب ودمائها والجلاّدين والفاسدين والخارجين عن دائرة التاريخ والحضارة والعلوم، سواء باسم السياسة او باسم الاديان... او باسمها معًا على غرار ما يسمّى »الاسلام السياسي« تدقيقا! أمّا اليوم وقد تمخّض جملُ الصناديق وانجب تلك الارقام والنّسب المفصّلة.. فإنّ الغيرة على مصير الوطن وعلى ثورة الشهداء البواسل، تحتّم التساؤل الاساسي التالي والاجابة عنه بحزم وطلاقةِ لسان وشهامة وطنيّة: »هل فازت الارادة المتحررة الواعية لشعب ثورة 14 جانفي؟ أم فاز الخروف الانتخابي؟ والمال الانتخابي؟« والتمعّش الانتخابي؟ كما انّ عديد التساؤلات الحارقة الاخرى تفرض نفسها حتى من زاوية المنطق الجماعي المجرّد: فهل أنّ التربة النفسية والثقافية السائدة داخل صفوف الشعب تمسحُ لوحدها فقط، بحصول التيار الاسلامي الملقّب »النهضة« (ولا أحد يعرف نهضة ماذا؟ ومنْ؟ وكيف؟) على أكثر من 40٪ من مقاعد المجلس التأسيسي؟ خصوصًا أنّ هذا التيار لم يكن لا من قريب ولا من بعيد وبأية صورة من الصور من فعاليات ثورة 14 جانفي المجيدة، ولا من المشاركين فيها ولا من المؤطرين لها بأيّ شكل من الاشكال.. على عكس المشاركة الفعّالة والحاسمة للحركة النقابية (الطلابية والعمالية) وللاتحاد العام التونسي والاحزاب والجمعيات والمنظمات المدنية الوطنية العريقة: فالجميع يعرف جيدًا أنّ »فلاسفة« ذلك التيار وشخوصه الشهيرة كانوا قبل الثورة وأثناءها في 3 مواقع: بعضهم كانوا يتبخترون في أرقى شوارع المدن البريطانية وبقية البلدان الاوروبية، والبعض الاخر كانوا يقضّون عقوبات جزائية فيما البعض الاخير كانوا يعيشون حياة آمنة وحرّة وفضّلوا تجنّب التصادم المسلح المباشر مع عصابات الجنرال وبوليسه وقنّاصته ومخابراته ورصاصه وقواريه الحارقة! كما أن مشاعر الحيرة والذهول وحتّى الامتعاض، التي اكتست بها الكثير من الوجوه في الطريق العام وفي أغلب المدن والقرى والارياف، بسبب تلك النسبة المائوية الحاصلة تتقاطع تمامًا تمامًا مع استغراب رموز التيار الاسلامي انفسهم من ضخامة تلك النسب العالية التي لم يتوقّعها اكثر المتفائلين منهم ولا حتّى مناصروهم في تونس وامريكا وبريطانيا وايران وقطر وتركيا والسعودية... ❊ ب العوامل التي عجّلت بحصول تلك النّسبة لقد تداولت الكثير من أوساط الرأي العام ووسائل الاعلام المتخلفة قبل الانتخابات واثناءها وبعدها الحجم الهائل من الاموال الطائلة المجهولة المصدر التي وضّفها التيار الاسلامي بصورة موازية مع قائمات المدعو الهاشمي الحامدي (الصديق الحميمي للجنرال الهارب) في استمالة الناخبين وخاصة الفتيات والنساء والعجائز، من أجل الحصول على الاصوات، في صيغة خليجية مبتكرة تقترب من المراودة الانتخابية والتمعّش الانتخابي: فالعديد من المواطنين رجالا ونساءً واطفالاً. قد شاهدوا بانفسهم في مدينة سوسة واحيائها الفقيرة ومداشرها وفي ارياف وعشوائيات ولايات نابل وسيدي بوزيد وسليانة والقصرين وجندوبة والكاف والقيروان بوجه أخص، اللّوحات الانتخابية التالية: توزيع الادوات المدرسية، وتمويل حفلات الختان والزواج والخطوبة، وخلاص فاتورات الماء والكهرباء والغاز، وتسليم خرفان مجانًا بمناسبة عيد الاضحى، وخلاص تسويغ محلاّت السكنى والدكاكين التجارية فضلاً عن مواصلة الحملات الدعائية غير القانونية حتّى يوم الاقتراع، بل وحتى داخل صفوف طوابير الناخبين عبر شراء الذمم والاكراه الناعم والمراودة وحتى التحرّش: فالتيار الاسلامي قد تقاطع وتوازى وتساوى مع قائمة المدعوّ الهاشمي الحامدي، في الالتجاء المشترك الى نفس الآلة الانتخابية سيئة الصيت والسمعة لتجمّع الجنرال المنهار، بل وحتّى إلى وافر من القاعدة الانتخابية الموبوءة بالتجمّع الفاسد المنقرض، والمتعوّدة تماما على التزوير والتزييف وبيع الذمة والضمير مقابل المال! كما ان جماعة التيار الاسلامي وجماعة المدعو الهاشمي الحامدي (وهو الابن البيولوجي المشوّه لذلك التيار قبل طرده من صفوفه) قد تقاطعوا تمامًا وتساوَوْا تماما في اقتلاع الاصوات المشوّهة عبر المال الانتخابي الخليجي الباعث على القرف والازدراء، مع مجموعة الاتحاد الوطني الحرّ ومع تكتّل مصطفى بن جعفر (ذو الجذور الدستورية القديمة) ومع حزب نجيب الشابي (الذي تنكّر لأصوله البعثية وضخّ الاوكسيجين الحيوي في رئتي التيار الاسلامي ضمن فضاءات هيئة 18 اكتوبر المثيرة للذهول وهو ما دفع منذ اكثر من شهر برئيس حزب المؤتمر من اجل الجمهورية إلى توجيه رسالة احتجاج واستياء من المال الانتخابي بعثها الى رموز أحزاب المال السياسي الموبوء المذكورين... كما ان الجميع يعلم في سياق متّصل بآليات الارهاب النفسي الانتخابي التي التجأ اليها بصورة موازية ومتزامنة التيار الاسلامي وجماعة الهاشمي الحامدي على حدّ السّواء.. منها توظيف قناة فضائية خاصة جدّا (المستقلة) للمآرب الدعائية الانتخابية وخطابات الوعيد والتخويف والتهديد العلني التي صدرت مباشرة من المرشد العام للتيار الاسلامي شخصيا والذي هدّد باغراق البلاد في امواج من العنف اذا تبيّن له شخصيا حصول تلاعب او تزوير للنتائج ولقد برهنت دراسات وتحقيقات العديد من الباحثين العرب في التاريخ السياسي والسوسيولوجي للتيارات السلفية الاسلامية، وبالخصوص الباحث المصري الشهير الدكتور رفعت السعيد.. ان اليات المال السياسي والتمعش الانتخابي والارهاب النفسي وتوظيف الدين واستعمال المساجد وفضاءات العبادة في الدعاية الانتخابية تمثل ثابتة مركزية قارة عند الاخوان المسلمين في مصر والاردن وسوريا والسودان وحتى في بعض البلدان الافريقية ولكلّ تلك العوامل والاعتبارات مجتمعة، فإنّ الاعتراف بالحقّ فضيلة حين تأكدت اغلبية التونسيين (أي حوالي 5 ملايين مواطن مسجلين في السجل الانتخابي لم يعطوا اصواتهم للتيار الاسلامي) أنّ مجموع المليون و300 ألف مسجّل الذين »اعطوا« اصواتهم لذلك التيار، لم تكن دوافعهم اطلاقا بديلا اقتصاديا واجتماعيا وثقافيّا وتربويا يقطع مع النظام المنقرض بل فقط لا غير لدوافع نفسية وعاطفية وشخصية ودينية وعائلية مُترابطة أشدّ الترابط، ويعرفها الباحثون جيّدا... ❊ ج جرائم انتخابية دفعت ثمنها باهظًا قوى وطنية عريقة مناضلة انّ ايّة قراءة محايدة لمضامين وفصول المرسوم الانتخابي وخصوصا البند 76 وفقرته الرابعة تصرخ بأنّ مختلف الجرائم الانتخابية المتنوعة التي اقترفتها عمدًا وتحديا للجميع ولهيئة الانتخابات نفسها، اغلبية الاحزاب والقائمات (وخصوصا منها الفائزة باعداد ضخمة من الاصوات والمقاعد)... مرّت دون اية متابعة قانونية حازمة ودون تتبّع اداري وجزائي يتضمّنه المرسوم الرئاسي الانتخابي... ومن باب الاختزال الشديد لابدّ من الاحقاق بانّ اقتراف تلك الجرائم الانتخابية المتنوعة وعدم تتبّعها والصمت عنها، يمثّل أحد العوامل الاساسية المباشرة التي ولّدت تلك النتائج والأرقام (بصرف النظر عن هويّة الفائزين وغير الفائزين).. بحيث أنّ الفوز الهادر لقائمات المال الانتخابي والتمعش السياسي وتوظيف المعتقدات الدينية المشتركة لاقتلاع او شراء الاصوات.. قد دفعت ثمنه باهظًا للغاية جلّ القوى الوطنية والاجتماعية والاحزاب العريقة... ولكن للمسار الثوري الكلمة الاخيرة!