البطحاء حول الميناء تعجّ بالحركة والنشاط. في الجانب مأوى لوسائل النقل مليء بالسيارات والشاحنات الخفيفة. الناس من رجال ونساء وشباب وأطفال في تحركات وتنقلات حثيثة وفي الواجهة سلم عريض وطويل يقود إلى قاعة عليا تشرف على الميناء مليئة بالبشر من مسافرين ومودعين ومن مستقبلين اختاروا الإشراف على الميناء لرصد سيارات أقاربهم القادمة من الخارج. الجوّ مليء بالصخب في قيلولة شديدة الحرارة أشعّة شمس أوسّو تنزل بقوّة على هامات العباد. جلس الشيخ بالبطحاء على حرف الطوار ينتظر حفيدته التي ولدت بالمهجر وقد تجاوز سنها السنة دون ان يراها. فضل الجلوس هنالك قبالة باب خروج سيارة ابنه التي يميزها عن عشرات السيارات. حرم الشيخ نفسه من غفوة القيلولة إذ هو متعود عليها طوال حياته فقدم من ضاحية جنوبية للعاصمة الى ميناء حلق الوادي لاستقبال ابنه وكنّته وحفيدته التي تحمل اسم أمه. نقله ابنه الاوسط في سيارته إلى الميناء ليستقبلا معا الاسرة الصغيرة العزيزة العائدة من المهجر من شمال إيطاليا حيث حدود دولة النمسا. جلس الشيخ يتأمل باخرة ضخمة راسية ملأ حجمها مرأى الافق فبدت كأنها مدينة عصرية ذات عمارات بينما انتصبت في الجانب الآخر مشربة الميناء التي انبعث من مضخم صوت جهازها غناء شعبي عن الغربة والحنين والاشواق إلى الوطن. جلس الشيخ يفكر ويتذكر: لما ولدت حفيدتي منذ ما يزيد عن سنة بأقصى شمال ايطاليا على الحدود النمساوية والسلوفينية طار تفكيري الى هناك لرؤية الوليدة العزيزة بشرني ابني المهاجر هاتفيا بالميلاد السعيد ثم استشارني حول تسميتها سائلا: أي اسم تختار لها يا أبي... يا جدّها. أفضّل ان أترك لك الحريّة في تسميتها. بما انك احلت إلي مهمة الاختيار فإني امنحها احبّ اسم إليك وأعزّ اسم في الوجود يخلف اسم جدّتي رحمها اللّه وهو اسم ام المؤمنين الأولى... خديجة. بارك اللّه فيك على هذا الاختيار الوجيه لقد وفّقك الله لاختيار افضل اسم في الوجود لوليدتك حفيدتي العزيزة. مولودة تونسية عربية في بلاد أجنبية في أوروبا تحمل اسم خديجة اسم سيدة العرب والمسلمين الاولى التي لقّبت الفاضلة في عهد الجاهلية وفي عصرالاسلام رضي عنها وأرضاها. فكرت في أم المؤمنين وفكرت في جدّتي رحمها اللّه التي حرمنا منها وقد سبق ان حرمت منها انت إذ عشت يتيم الأم. تعب الشيخ من الجلسة الشّاقة وتعب اكثر من الانتظار انّه يمقت الانتظار في كل الاحوال للفراغ الذي يعيشه المنتظر لكنه اقنع نفسه منظّرا (إنه تعب حلو) ما داما ينتظر حفيدته التي يلم يرها منذ ولدت وتحمل اسم امّه فكأنه ينتظر امّه ان شاء اللّه تكون حفيدته تحمل صورة والدته... تساءل هل تتذكر وجه والدتك؟... لم أتذكر منه شيئا يقال إنّ المحبّة البالغة من شخص لشخص تفقده استحضار تلك الملامح تماما خاصة عندما يتعلق الامر بمحبّة الابن لامه رحلت والدتي وانا طفل بين الثامنة والتاسعة من عمري. لم أنس شيئا من حركاتها وتحركاتها في نشاطها في البيت وخارجه ولم يغب عنّي لباسها الريفي. ما ابدع تلك الملاءة التي كانت ترتديها وهي من صنع يديها في المنسج كذلك احاديثها مازالت راسخة بذهني وما أروع تلك الاغاني الشعبية الريفية النسائية التي كانت تترنم بها امام المنسج او مع رنين الرحى وهي تطحن الحبوب وخاصة رائحتها الذكيّة الزكية كانت أطيب رائحة بأنفي اما في فصل الصيف حين تعرق فإني أستنشق الطيب والمسك في ملابسها. يذكرني الموقف بقميص سيدنا يوسف بين يدي سيدنا يعقوب عليهما السلام. رغم كل ذلك اني لا اذكر من ملامح وجه والدتي شيئا والاسف كل الاسف حيث لا توجد اي صورة تذكارية لها... المهمّ سأعتبر وجه حفيدتي هو وجه أمي بالتحديد، ظلّ الشيخ مقرفصا يرقب سيل السيارات التي تتوقف اكثر مما تتقدم في ألوان وأشكال عديدة وفي أحجام متفاوتة تحمل أرقاما أجنبية من عديد بلدان أوروبا. يسأل من حين إلى آخر ابنه الاوسط الذي نقله إلى الميناء هل اقترب خروج أخيه فجاءه مخبرا أنه رأى من المبنى العلوي سيارته تقترب من باب الخروج. وماهي إلا لحظات حتى أطلت سيارة ابنه تتقدم رويدا رويدا فقفز الشيخ وكاد يسقط لولا ان أمسك بسياج الميناء ثم هرول نحو السيارة فتقدم إلى الأسرة واختطف حفيدته فاحتضنها ثم رفعها وطفق يسلم على ابنه وكنّته ودموعه تتقاطر وظلّ يحتضنها يشمّ رائحة أمّه ويتأمّل وجهها وبانطلاق السيارتين جعل الشيخ يترنم: أميّمه يا خديجة م الخارج جيتينا م الهجرة والغربة