أسرع بداية للإعتراف بأنني لن أزعم الموضوعية التامة بسبب محدودية قدرتي على التجرد من مشاعر الاعجاب والردّ في كتابة هذا المقال. فكاتبنا جامعيّ منخرط في بيئته العلمية كاختصاصيّ في «أندري جيد» و»جون جيني» والنّقد السينمائيّ والصحافة إذ هو يدرّس السينما العربية والأدب الفرنسي في الجامعات التونسية و»الهادي خليل» مبدع في مجالاته المعرفية وله سبع مؤلفات باللسان الفرنسي تناولت السينما التونسية والعربية والافريقية واعمال الكاتبين الفرنسيين «جيد» و»جينات». كا صدر له باللسان العربيّ: «العرب والحداثة السينمائية» و»رمية النرد التلفزة والسينما والفوتوغرافيا» وهي مقالات في الصورة. كاتبنا يدافع بجرأة نادرة عن قضايا شبه محرّمة. وهو حريص على المجابهة والتعرض لمواضيع مثيرة للجدل وصريح في معالجة الموضوعات المسكوت عنها في كل ادبياتنا الشفوية والمكتو بة. تلك هي أهمّ الأسباب التي رمت بي في «محرقة» هذا العمل الإشكاليّ الزاخر بالاعترافات والسخرية معا «جرح الكلب السائب» (La blessure du chien errant) وهي دفاتر أو «أوراق من العراق»: (carnets d'Iraq) (1991 2003) . والإلتباس الذي يكتنف هذا الأثر المثير هو تصنيفه في خانة من خانات الاجناس الادبيّة. هل هو يوميات حرب؟ هل هو ريبورتاج عن الحرب في العراق؟ هل هو رواية؟ هل هو شهادة؟ عن هذه الاسئلة يحاول الكاتب في الاستهلال Prologue أن يجيب قائلا: «هذا الكتاب ليس وقائع للحرب لكنّها وقائع أحوال الناس زمن الحرب. فدوافعه ومداه ليست إذن ظرفيّة ولو كان الأمر كذلك ما ك كنت كتبته» (ص 9). «جرح الكلب السائب» ليس مذكرات أو نقلا صحفيا وليس رواية فما نوع هذا النص؟ وما جنْسُ هذا العمل الادبيّ؟ أجزم فقط أنّه كلّ ذلك في نحت معماريّ متجانس. يتقاطع فيه الروائيّ بالريبورتاج والسينمائي التسجيلي بالنقد والتحليل السياسي وتتعانق الرسالة فيه وبه بالجمالية والفنّ الانشائيّ في لغة الاخر الفرنسي، لغة فرنسية منتقاة بعناية فائقة حتّى تخالها شعرا منثورا، الكتابة في هذا العمل المجنون تنطلق من تجربة حسّيّة صادقة بل من جملة فجائع مسّت الذّات والموضوع وكسّرت الظاهر والباطن بسرعة مذهلة جعلت الكلمات تشيّد ملحمة عظيمة لكنّها ملحمة عالم تخلى عنه الله كما يقول لوكاتش. موضوع أو موضوعات السّرد أسئلة مُحرجة يجري السّكوت عنها جُبنا أوسفاهة وتملّقا: أخطاء السلطان العربيّ، تهافت وإنتهازية المثقف وسوها من المواضيع التي تُرْوى دون جلد مجانيّ للذّات لتبرز وعي الإنسان بالمأساة والهزيمة التي هي في المحصلة مؤشّر على الفشل العربيّ أكثر منها برهانا على انتصار العدوّ واذا قرأنا هذا النص قصّة حبّ زمن الحرب تدور فعاليّاتها بين بغداد وعمّان وطرابلس ودمشق وصفاقس وسوسة والقيروان يسقط ما سواه وهو الهامش والمسكوت عنه والمنسيّ عنوة في ثقافتنا وآدابنا. وهو جوهر موضوعنا ومقصدنا في هذا المقال هنا مربط الفرس كما قالت العرب زمن الفروسيّة، الهادي خليل تأمّل (أحوال الزعيم) و(أحوال المثقف) تأملا نقديّا لاذعا وجارحا. I أحوال السلطان: Le Raïs وهو يروي وقائع حربين ضروسين في بلد الرافدين، يصف الكاتب بعض سمات الرئيس الفكرية والنفسية وتعرض لبعض سلوكاته السياسية والديبلوماسية بأسلوب قد لا يعجب الكثيرين ويثير غضبهم فيرمونه بالخيانة القومية والتحامل على زعيم «جليل» منزّه عن الاخطاء! يلتبس عليهم الامر ويمّحي شعب وتذوب بلاد بأكملها في شخص واحد أوحد! يا له من خلط وياله من توحيد! ينفرد فصلان من الكتاب بالحديث عن الرئيس العراقيّ إبّان محنة الحرب الاولى ثم الثانية قائلة ما ينبغي أن تقوله بلا أدنى حرج في (الرئيس ومترجمه Le Raïs et son traducteur ص 13 الى ص 18 ) وهو الفصل الاوّل بعد الاستهلال وفي الفصل الاخير (نجمة، النّجمة الحبيسة Nejma , l'étoile accuse ص 147 إلى ص 154). كيف بدا الزعيم للكاتب الهادي خليل؟ الرئيس بعثيّ وقوميّ عربيّ واثق جدا شديد العداء للغرب في الظاهر على الاقل ويمتلك روح تحدّ عاتية تغلّفها صرامة ونزعة مغامرة بلا حساب للعواقب مهما كانت وخيمة ومؤذية له ولشعبه. ويبدو وثوقه من قناعاته وثباته على مواقفه كما يشهد الكاتب اثناء لقاءاته بوسائل الاعلام الغربية والقنوات الفضائية (تبدو مبرراته وحججه لدخول الكويت وسعيه لجعل بلده يمتلك قدرات عسكرية مناسبة مقنعة ومعقولة ويبدو يقينه في ذلك مثيرا ص 13). ويرسم المؤلف حادثة تعكس روح تحديه وكبريائه المفرط في بعض الاحيان وهي رمزية في جوهرها لكنّ وزراء الرئيس جعلوا منها انجازا وتصرّفا بطوليا! (في طريق عودته من قمّة عدم الانحياز 1979 في كوبا وتوقّف الطّائرة في لندن امتنع الزعيم والوفد المرافق عن النظر الى مطار الدولة المستعمرة السابقة) ومن التفاصيل التي يجهلها الكثير منا هي أنّ الرئيس صدام حسين كان ذا لسان واحد فهو لم يحذق أيّة لغة أجنبيّة مما أثار عجب الكاتب نفسه وعلّق قائلا (من الغريب أن لا يفكّر رئيس دولة تسعى الى التوسّع في المنطقة في تعلم لغات أخرى كالإنقليزية والفرنسيّة ص 17). وأنّه فقد أباه وعاش اليتم منذ نعومة أظفاره هذا الإنسان الذي حكم العراق قرابة ربع قرن بكل الاساليب المتاحة يبدو وكأنه وحيد بلا سند بعد أن قُبض عليه ونُكب في نجْليه.. (... en regardant les premiéres images de la capture de S.H, a-t-on vu dans cette scène l'affaissement sans gloire d'un symbole Mais un sysmbole de quoi et pour qui p149) ويخلص الكاتب الى نصيحة (تحذير) إلى كلّ الحكام العرب مفادها أنّهم اذا ارادوا الامان فعليهم ان يتعاونوا مع الامريكيين ويرجو أن يعتبر كثير من حكّامنا بما جرى لصدام حسين. II أحوال المثقف يشترط المفكر الفلسطيني «إدوارد سعيد» أربعة شروط على المثقف الحقيقيّ الذي تقع على عاتقه مواجهة الظلم والقبح والشرّ. أوّلا: عليه أن يطرح علنا أسئلة محرجة يجري السكوت عنها في ظلّ النظام الدولي الجديد الذي حوّل العالم غابة كبيرة مخيفة تثير ذعرا لاحياء والاموات. ثانيا: على المثقف الحقيقيّ ان يجابه المعتقد التقليدي والتصلب العقائديّ بدل ان ينتجهما وأن لا يسمح لانصاف الحقائق أن تسيّره وأن ينهمك في نزاع مستمرّ مع الاوصياء على السماء والمقدّس. ثالثا: أن يكون مستقلا (لا مستقيلا) وليس من السّهل على السّلطة أو غيرها إستيعابه. رابعا: أن يمثّل كل تلك الفئات من الناس التي يلفّها حزام البؤس والتّجاهل والاختزال. هذه بعض خصائص المثقف الذهنية التي بدأت تتآكل في مجتمعاتنا العربية وهي عين الكارثة التي يمكن ان تنخر أمّة من الامم. مثقّف حقيقي مواجه للسلطة بكل اشكالها نادر جدا وقد يؤول الى حالة من اليأس القاتل سنفترض وجوده او نبحث عنه في هذا المؤلف الذي نقرأ ونكشف عن مواقفه وسلوكه تجاه ما جرح في «يا عراق!» 1) حسن بن عثمان: صديق حميم وقديم للكاتب «الهادي خليل» وربّما لذلك قصّة بصفحتين من كتابه «جرح الكلب السّائب». هو مثقف عصاميّ وروائيّ ناجح وصحفي قدير يكتب بمداد من لهب ومما كتب في مجلة «المغرب» «Le Maghreb» مقالين مثيرين في شهر أوت 1990 (صدام حسين وجائزة نوبل للسلام؟ و»نحن مع العراق ظالما او مظلوما») ويروي الكاتب كيف استقبل «حسن بن عثمان استقبال الابطال في بغداد ووضعت السلطات العراقية تحت امرته سيارة «Chevrolet وسائقا وخلال عشرة أيام قضاها في بغداد التقى اهمّ المسؤولين السّياسيين والعسكريين وأجرى معهم حوارات ساخنة. سأله الهادي خليل: «هل قابلْت النّاس البسطاء وهل زرت الاحياء الشعبية»؟ يقول بالانتصار النهائي على «أمريكا» وعلى كل تحالفات العالم وبأحقّية الرئيس في معاقبة الخليجيين الذين لا يلهثون إلاّ وراء اللّذة والنّساء وبالكويت الاّ بداية ويذهب القاصّ «حسن بن عثمان» مذهبا ابعد ليقرن بين الخليجيين والليبيين الذين ينكحون كل بناتنا في تونس لانّهم أثرياء. لذلك يقول : «معاركنا ومعارككم واحدة» (ص 20). وفي لقاء بطلبة الاستاذ «الهادي خليل» في جامعة المستنصريّة في بغداد تحدّث «حسن بن عثمان» عن تجربته النضالية بعد منع مجموعته القصصية الاولى «عبّاس يفقد الصواب» (1996) لانها تمثّل خطرا على النّظام العام! عيّنات من المواقف والسّلوكات تبرز تهافتا وتهوّرا لا يحسد عليهما كاتب في قيمة صانع «بروموسبور» و»ليلة الليالي». هل كان يعلم أنّ نسبة لا بأس بها من الشعب العراقي لم تكن ترغب في تلك المغامرة الانتحارية لأنها كانت لا تملك حقّ التعبير المعلن عن موقفها وأن الطالبة «سناء» ذات العشرين موال حزين اختفت لما قالت لمخرج بلجيكي في حديقة الكلية إجابة عن سؤال حول الحرب القادمة «نرجو من رئيسنا الغالي أن ينسحب من الكويت قبل فوات الاوان» (ص 24) وتلك صورة لا لبس بها لمثقفينا تحيّرني وتجعل سؤال الهادي خليل الذي طرحه بدلا عنّي وعنّا جميعا: «lui, d'habitude si licide et si intelligent, croit- il vraiment à ce qu'il dit» سؤالا مشرعا على جميع الاحتمالات. 2) المثقّف العراقيّ: ليس كسواه من المثقفين العرب مهما أبدوا من التّعاطف والتّضامن الذي قد يبلغ حدّ المزايدات البائسة فلا يعرف العشق الاّ من يكابده كما يقال. أثناء إقامته القصيرة في دمشق تعرّف الى اصناف من المثقفين العراقيين تجمع بينهم حياة المنفى وتفرّق بينهم الانتماءات الفكرية ومن هنا المواقف عن الحرب الظالمة على بلدهم. وجميعهم معارض للنّظام البعثي في العراق العراقيّ الدّنماركيّ طبيب مهاجر منذ عشرين عاما مع زوجته السورية وابنائه يعتقد هذا الاسلاميّ «المعتدل» انّ صدام جنى على بلاد تحوي ثروات طائلة وساقها الى الإفلاس وساق اهلها الى المهانة بعد حرب أولى على ايران وغزو لبلد عربيّ مستقلّ. يبدي الطبيب العراقيّ الدنماركي شماتة بالرئيس الذي اسقطته القوات الامريكية بعد ان رفض الاستقالة. يقول بوضوح: «J'adhère entièrement à l'initiative américaine» (ص31). فالأحوال لن تكون اسوأ كما يزعم هذا الدكتور! بل كاد يتهم المغاربيين بالتدخل في ما لا يعنيهم وبجهلهم لحقيقة الجرائم التي ارتكبها نظام صدّام حسين وكاد يقول بغضب: «Pourquoi vous êtes plus irakiens que les Iraquiens eux - mêmes « (ص 132) . بما معناه: هل أنتم عراقيون اكثر من العراقيين انفسهم؟ لم لا يكون السؤال وجيها وهو سبيل للمعرفة؟ «جرح الكلب السائب» شتات نصوص واجناس تصل بين السيرة الذاتية والسيرة المجتمعية يكتنه الواقع العربي والانساني بأعمق وادق ابعاده اثر ينفتح على كل الافاق الفنية والفكرية متعدد الاصوات ومتداخل المكوّنات بإختصار هو نص ّ لا شبيه له. أمّا الهادي خليل فمبدع اصيل وطائر يحلّق بأجنحة الحرية والصدق متجاوزا الخاص والذّاتيّ يزاوج بين الحساسية الانسانية والفنية وبين الصراع من أجل اقامة مجتمع حرّ وعادل وهو يعمد في ذلك الى أسلوب التشهير والتعرية يشهّر باعداء الانسان ساسة ومثقفين بلا وجل معتمدا شواهد حيّة من وقائع عاشها وعايشها قلبا وقالبا.