يعتبر تحقيق الاكتفاء الذاتي، وخاصّة منه الغذائي أسّا من أسس تحقيق السيادة الوطنية، ولمّا كانت السّيادة الوطنية مقوّما من أهم مقوّمات توطئة الدستور ومبدأ من أهمّ مبادئ فصله الأوّل فإنّه من واجب الدولة أن تضمن تحقيق هذا المبدأ بتأمين مقوّم من مقوّماته ألا وهو تحقيق الاكتفاء الذاتي, وعند الحديث عن الاكتفاء الذاتي نحن مجبرون حتما على الحديث عن الفلاحة. والفلاحة في تونس مسألة مسكوت عنها منذ عقود،وإن خِيضَ فيها فعلى سبيل رفع الملامة أو لغاية إخماد غضب كامن في الصدور. لقد عاش هذا القطاع عملية تدمير ممنهجة أتت على الأخضر واليابس وحوّلت تونس من «مطمور روما» إلى دولة لا تنتج غير 25 بالمائة ممّا تستهلك! أراضٍ دولية شاسعة تمّ الاستيلاء عليها من قبل عائلة المخلوع والمقرّبين منهم أوالتفريط فيها إلى شركات استثمار جعلت منها «عزبا» لخلاعة نهاية الأسبوع فلا أنتجت خيرات ولا أبقت على مواطن رزق بل تمّ تصحير أغلبها... فلاّحون أُغْرقوا بالديون حدّ إفلاس عدد منهم، وكبّلوا بثقل تكاليف الانتاج حتّى لم يستطع كثير منهم مجابهة المواسم وما تحتاجه من أسمدة مرتفعة الثمن يحتكرها قلّة ويفرضون على الفلاّحين طرقا معينة في بيعها، ومن بذور صار أغلبها كما الأسمدة يثير ألف سؤال، ومن محروقات تلتهب أسعارها باستمرار، ومن وسائل عمل ومعدّات وآلات لم يعد باستطاعة الكثيرين اقتناؤها لغلائها الفاحش، ومن ماء، إن وجد، فاق سعره كل معقول.. وينضاف إلى كلّ ذلك وغيره مسالك بيع ملتوية ومعقّدة واحتكارية تزيد من ثقل كاهل الفلاّح وتعمّق أزمته بعد أن عمّقتها السياسة العرجاء للدولة التي أرادت التخلّص من هذا القطاع، وزادها عمقا أخطبوط بيروقراطي جعل من التعطيل والعرقلة والتعقيد الإداري وسائل ابتزاز وهيمنة تفوق بكثير ما يجري في عديد القطاعات... ولا يختلف اثنان على ما للفلاحة، إلى جانب انتاجيتها وصلتها بتحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي، من طاقة تشغيلية فائقة. غير أن ما تعانيه الفلاحة من مشاكل ومنها على سبيل المثال تدنّي الأجور، إذ أن الأجر الأدنى الفلاحي أقلّ من الأجر الأدنى الصناعي، وما يتخبّط فيه الفلاّح من أزمات طالت حتّى أن بعض كبار الفلاّحين مُنعُوا من الاستفادة من هذه الطاقة وأُجبر الآلاف على النزوح وهَجْر الريف فزاد ذلك في تفقيره وتصحّره. لقد آن الأوان أن يتمّ فتح ملفّ الفلاحة لتنجز فيها ثورة راديكالية حقيقية انطلاقا من كونها قطاعا استراتيجيا حيويا يؤدّي انهياره إلى انهيار أهمّ مقوّمات السيادة الوطنية، ويجب أن تبدأ هذه الثورة باستعادة الأراضي الدولية وهيكلتها ضمن منظومات دَوْلية أو تعاونية ودعمها ماليا وتقنيا بوصفها مصدرا رئيسا من مصادر الثروة الوطنية، ومن الواجب أن تتدخّل الدولة لدعم الفلاحين كما تفعل مع الصناعيين عبر الإعفاء من الديون وتقديم التحفيزات المادية والعلمية والتقنية ووضع استراتيجيات فلاحية جهوية وإقليمية اندماجية بعيدا عن التركيز على الانتاج التصديري الذي فرض على الفلاّحين لعقود فلم يخلّف إلاّ الدّمار والخراب، ومن الواجب إعادة تنظيم مسالك التوزيع وضبطها وتجريم الاحتكار والتهريب ومن الضروري مراجعة سياستيْ التوريد والتصدير بما يضمن رقابة علمية وصحّية ومالية وتجارية صارمة ويؤمّن استقلالية انتاجية تتحرّر ممّا فرضته الشركات العالمية من احتكار في أسواق البذور والأسمدة التي عمّقت التبعية وكبّلت الفلاحة في تونس. هكذا وجب إنقاذ الفلاحة، ونخشى ان تستمرّ السياسة الليبيرالية في هذا القطاع كما هي مستمرة في غيرها ، إنّ الإصلاح الجذري الذي يجب أن ينجز في قطاع الفلاحة مرتبط بلا شكّ بالاختيارات الاقتصادية والاجتماعية المتبعة وبمنوال التنمية المزمع اعتماده ولذا من الضروري مراجعة كل ذلك عبر القطع مع منوال تنمية ليبيرالي غير متوازن طُبّقَ لعقود وأثبت فساده وفشله في كل المجالات وبالأساس في المجال الفلاحي. يجب تحرير الفلاحة من الفساد.