تعيش المؤسسة التربوية هذه الايام على ايقاع نهايات الموسم الدراسي حيث لم تعد تفصلنا عن موسم الامتحانات الا أسابيع معدودات ملأى انتظارا وحبلى خوفا ومشحونة بتصورات تتأرجح بين الأمل والقلق. فالموسم الثاني على التوالي تعرف السنة الدراسية بل الحالة التربوية عموما الكثير من القلاقل التي تعتبر انعكاسا للمال العام وللوضع الذي تعيشه البلاد منذ حوادث 14 جانفي التي خالها الجميع فتحا مبينا فاذا هي فتح لأبواب الجحيم مما كالمستجيرين بالرمضاء من النار... والا فما معنى ان تنهار وفي اكثر من بقعة من هذه الارض سلالم الاخلاق والقيم، وتعمّ حالة من «تطييح القدر» لم تشهد لها هذه البلاد مثيلا، وتسود طقوسا وممارسات تذكي نار الرفض بما حدث لنا تحت اي مسمى ثورة وما شابهها... وتجعل كثرة المنادين «براجل أمي الأول»! لقد قبل الناس بأشياء كثيرة على مرارتها تحت عنوان وذريعة ثورة قبل الناس على مضض الانفلات الأمني والانهيار الاقتصادي والانفصام الاجتماعي. وقلة الأدب وقلة الحياء وجميعها من قلة الوطنية ومن قلة الاحساس بالانتماء وفقدان الوفاء لأرض أعطتهم كل شيء منذ آلاف السنين وقابلوها بالعقوق والنكران. قبل الناس بكل هذه «الجرائم» مستعملين كل الاعذار التي قدمها نزار قباني لحبيباته... ولكن لم ولن يقبلوا ما آلت اليه الاحوال في هذا الزمن الزفت والعصر الحالك في مؤسساتنا التربوية التي تحولت مرتعا لجحافل الفعل المشين الذي حول رمز المؤسسة التربوية من «اقرأ» الى «اضرب» «دمّر» «أفسد»، «امرق»، «شُذَّ» «تمرّد« تجرّم»... لم يقبل الناس بتلويث المئزر الابيض واذلال الطبشور! لم يقبل الناس بذلك فكانت ردة الفعل الجميلة في عديد المواقع ومن مختلف الجهات وسائر المنظمات على غرار تلك الندوة التي سموها نداء استغاثة صادر عن «الرابطة التونسية : أصدقاء بلا حدود» ورئيستها السيدة صبرية بواب الحيوني وكذلك السيدة هادية غنية المديرة العامة لقصر العلوم والسيد محمد المحمدي مدير الموارد البشرية، هذه الندوة حركت الكثير من السواكن خاصة ان برنامجها كان أكاديميا وشعبويا في آن حيث أثراها الاستاذ الدكتور توفيق السخيري بمداخلة حول اسباب العنف المدرسي من زاوية علم النفس والاستاذ علي الحربي كاتب عام نقابة الاساتذة في مداخلة بعنوان «معالجة ظاهرة العنف المدرسي من الناحية التربوية» عولجت فيها مسائل عدة على غرار ضرورة العودة الى حصص المراجعة Permenance، وتحريك دور الولي والاحاطة بحالة الطفل النفسية، الى جانب مراجعة البرامج التعليمية وتنقيحها لتتلاءم مع التحولات الحديثة، ليفسح المجال بعد ذلك المجال الى الجانب القانوني الذي آمنه الاستاذ رشيد المبروك القاضي المستشار بالدائرة الجنائية والذي كفانا مؤونة التعليق بمداخلته التي ندرجها كاملة لتعميم الفائدة: « إن العنف في المدارس والمعاهد هو ظاهرة اجتماعية كغيره من الظواهر التي في الحقيقة لا تستعصي على الدرس والملاحظة ولكن فهم اسبابه ودوافعه من الصعوبة بمكان فهو ليس محل اهتمام على اساس انه ظاهرة جديدة بل لانه الظاهرة الأبرز خلال هذا الموسم الدراسي فترى هناك مجموعة من التلاميذ يضرمون النار في جزء من مؤسستهم التربوية وآخر يعنف مربيا والبقية بصدد تبادل العنف في ما بينها. هذه الندوة الدراسية التي تنظمها رابطة أصدقاء بلا حدود بالمنستير بالتعاون مع قصر العلوم بالمنستير ليست ندوة بحث في الاسباب فحسب بل هي محاولة لبلورة رؤية مستقبلية لسبل الحد من الظاهرة بالتركيز على الطفولة باعتبارها المجال الخصب الذي تترعرع فيه تلك الظاهرة تبعا لسهولة تأثر الاطفال. تجدر الاشارة بداية ان الطفولة في تونس عاشت مفارقة كبيرة فمن جهة هي محل اهتمام تشريعي واضح من خلال الكم الهائل من النصوص القانونية المتعلقة بالطفل اهمها مجلة حماية الطفل واخرى هي محل اهمال بارز من خلابل عدم تفعيل تلك النصوص القانونية وتراجع الاستثمار العمومي في مجال الطفولة من نسبة 26 بالمائة سنة 2000 الى 12 بالمائة سنة 2009 ولعل المثال الابرز لذلك هو انه لا وجود لروضة اطفال واحدة في بعض الجهات على ملك الدولة او الوزارة المعنية بالطفولة ولنفهم اكثر مدى التناقض الحاصل بين وفرة النصوص القانونية والواقع المؤلم للطفولة في تونس يكفي ان نلاحظ ان سجلات المحاكم تبين ان حوالي ثلاثة آلاف حالة طفولة مهددة تم تسجليها خلال السنة القضائية 2010 2011 وانه ما بين 60 ألف و 80 ألف طفل ينقطعون عن التعليم سنويا تلك هي بعض ملامح الطفولة في تونس وهي التي نلقي عليها الآن باللائمة حين تمارس العنف في المدارس او المعاهد. يجب ان نعترف وبشجاعة ان هناك تقصيرا واضحا في الاحاطة بأبنائنا الصغار. لقد تركناهم فريسة للعنف والفوضى والاهمال هذا التقصير (الذي ود البعض ان يتم تجريمه بتحميل الأب أو المربي المسؤولية الجزائية عن فعل المنظور ابنا كان او تلميذا وهي أمنية تتعارض مع مبدأ شخصية العقوبة) هو بمعيار أخلاقي جريمة في حق أبنائنا الصغار لكن كما هو معلوم في بعض الحالات التي يحضر فيها القانون تغيب الاخلاق، نعم تلك هي المفارقة اذ لا يؤاخذ الأب بجريمة ارتكبها الابن وان كان يتحمل المسؤولية المدنية عن أفعال ابنه. العنف في المدارس من الناحية القانونية يُكَيَّفَ من خلال الوسائل المستعملة فيه ومن خلال النتائج المترتبة عنه لأن العنف في المدارس هو وصف متداول ولكنه ليس وصفا قانونيا لأن العنف إما أن يكون من ذلك النوع الذي لا يحصل منه أدنى تأثير معتبر على صحة الغير فهو من قبل العنف الخفيف المستوجب للعقاب المنصوص عليه بالفصل 315 من المجلة الجزائية او هو من قبيل العنف الشديد المجرد او الناجم عنه سقوط وقد يكون عنفا أخطر من قبيل ذلك الذي يحصل عنه موت. العنف في المدارس لا يثير إشكالا خاصا اذا كان عنفا فرديا في قالب اعتداء أو رد فعل او تبادل للعنف بين طرفين. ما يزعج فعلا هو ما أسميه شخصيا (العنف الجمعي) أي العنف الصادر عن مجموعة كبيرة من الاشخاص مجموعة قد لا يسمح عددها بتحديد المتسبب في الضرر لانه لا يمكن التصريح بإدانة شخص ما لم تثبت العلاقة السببية بين فعل مادي صادر عنه والضرر الحاصل وهو ما يعبر عنه قانونا بعنصر الاسناد وليس ذلك فحسب بل ان ما يهم حقيقة في ذلك النوع من العنف هو المحرض اي الفاعل المتخفي الذي أوعز للمجموعة بإتيان فعل الاعتداء. هذا النوع من الاعتداءات التي ترتكب من قبل مجموعة هي النوع الاخطر من حيث نتائجها ومن حيث التكييف القانوني اذ ان العنف المنظم والصادر عن جماعة من الممكن ان يرتقي إلى درجة جناية تكوين عصابة للاعتداء على الاشخاص اذا ما تبين لأن المجموعة المعتدية قد أضمرت الاعتداء واستعدت له مسبقا وما يجب ملاحظته في هذا السياق ان جريمة تكوين العصابة على معنى الفصلين 131 و 132 من المجلة الجزائية تتوفر بمجرد الاتفاق بين الاطراف على الافعال المزمع اتيانها ولا يشترط اتيانها او الشروع فيها فعلا لأن الفعل المجرم هنا هو تكوين العصابة بذاته وليس ما أتته من افعال قد تكون في صورة حصولها مستوجبة لعقوبات اشد من تلك المنصوص عليها بالفصل 132. من المفيد ان نلاحظ ان القانون الجزائي لم يفرق في توصيف الافعال ما اذا كانت صادرة عن كبير او عن طفل انما الفرق في العقاب الذي من الممكن ان يسلط على الجاني ولماذا نتحدث عن عقاب لان القوانين المنظمة للحياة المدرسية لا ترتب عقوبات جزائية على مرتكبي جرائم الاعتداء بالعنف في المدارس او المعاهد اذ هم يحاكمون في صورة التوصل إلى معرفتهم على اساس المبادئ القانونية التي تضمنتها المجلة الجزائية ومجلة حماية الطفل وخاصة الفصل 43 من المجلة الجزائية الذي أفرد للاطفال سُلَّمَ عقوباتٍ مُخفَّفًا. من الناحية القانونية لا فرق بين مرتكب العنف وبين من حرضه على ذلك فكلاهما يعاقب بالعقاب المنصوص عليه للجريمة المتوفرة في حقه لكن من الناحية الواقعية (المحرض) وهو ما اصطلح على تسميته بالمشارك بلغة القانون وهي اللفظة المستعملة من المشرع في الفصل 32 من المجلة الجزائية وما أسميه شخصيا ب (الفاعل المتخفي) هو الأخطر لانه هو المحرك وهو محدد الغايات والاساليب والمواعيد كذلك ولا شيء يمنع المحكمة من ان تسلط عليه عقابا أشد من ذلك المسلط على الاطفال مرتكبي الاعتداءات ونقول اطفال لأن أعمار اغلب الدراسين بالتعليم الاساسي الثانوي عادة أقل من ثمانية عشر عاما وعلى ذلك الاساس يعاملون معاملة الاطفال بحثا ومحاكمة وعقوبة وتنفيذا وهي مراحل تحترم فيها مقتضيات مجلة حماية الطفل وغيرها من القوانين خاصة نظام السجون والاصلاحيات. من الممكن ان نتساءل كيف يمكن ان نتدارك؟ كيف يمكن ان نبني جيلا ينبذ العنف ويقف ضد انتشار ظاهرة العنف في المدارس والمعاهد وكل الاماكن العامة بل ضد العنف مبدأً في المطلق؟ المسألة ليست بسيطة ولكنها في المقابل ليست مستحيلة فبذل شيء من الجهد من قبل المربين والأولياء كفيل بأن يغير المعادلة لان استقالة الاولياء والمربين وما منح للطفل من حصانة وهمية في بعض الحالات تحول دون ردعه عند الاقتضاء ساعدت على التسيب واستفحال بعض الظواهر السلبية ولعل وصيتي الاهم للمربين هي ما نص عليه الفصل 319 من المجلة الجزائية في فقرته الاولى من القول بأن تأديب الصبي ممن له سلطة عليه لا يستوجب العقاب لأن سلطة المربي على تلميذه ليست فقط ظرف تشديد لبعض الجرائم بل عنصر إعفاء في البعض الآخر.