كلّما وصلنا إلى الثكنة قدّمت إليه فنجانا من الشاي فلم يرفضه بل احتساه وشكرني وخطر ببالي أن أنفق ثمن قدح من الخمر تكريما له فوجدت الخمْرَة في ثكنتنا نفعا فكان أشد سروره بذلك أفرغ الخمرة في جوفه وتنحنح رضى واغتباطا وقال لي إنني رددت إليه الحياة ثمّ مضى مسرعا الى المطبخ كأنّما لا يمكن أن يقرّر في المطبخ شيئا دونه فما أن غاب حتى جاءني محدث آخر أنّه شاذلي الذي سبق ان تكلّمت عنه وكنت قد دعوته أيضا إلى فنجان الشاي. لا أعرف خلقا أكثر دماثة من خلق الشاذلي والحق أنّه لم يكن يغفر لأحد شيئا. حتى لقد كان يتشاجر مع الناس كثيرا وكان لا يحبّ أن يتدخل أحد في شؤونه خاصّة أنّه كان يعرف كيف يدافع عن نفسه ولكن مشاجراته كانت لا تطول وأعتقد أنّ جميع السّجناء كانوا يحبّونه. كانت تحسن وفادته حين ذهب وحتى في المدينة يُعدّ ألطف انسان. إنّه فتى فارع القامة في الثلاثين من عمره له وجه ينمّ عن ذكاء وحزم وهو بلحية ذقنه وسيم الطلعة جميل المحيّا وكانت له موهبة فذة هي القدرة على تشويه وجهه تشويها بلغ من الاضحاك تقليد أوّل قادم إلى الحلقة التي تحيط به ما تلبث ان تنفجر في قهقهة شديدة. انّه ممثل هزلي بفطرته ولكنّه يرفض أن يسيء إلى أولئك الذين يصطنعون الاشمئزاز أن لا يحبّوا أن يضحكوا لذلك لم يكن يتهمه أحد بأنّه امرؤ لا فائدة منه ولا داعي له. كان الشاذلي يفيض حياة ونارا وقد تعرّف إليّ منذ الأيّام الأولى فقصّ عليّ سير حياته العسكرية جنديا في كتيبة الرواد في أعلى الرتب وسرعان ما ألقى عليّ عدّة أسئلة. كان يقرأ كتابا فلمّا جاء في هذه المرّة يحتسي الشاي عندي أضحك جميع من في الثكنة اذ روى كيف أساء إلى الضابط في القيام مبتهجا وهو يجلس إلى جانبي. إذ من الجائز أن تقام في السجن حفلة تمثيلية ان في نيّة السّجناء ان يمثّلوا مسرحيّة أثناء عيد الميلاد وقد حلّوا ممثلين وهم الآن بصدد إعداد الديكور شيئا فشيئا. وقد وعدهم بعض الأشخاص في المدينة بإعارتهم ثيابًا للتمثيل حتى انّ هناك أملا في الحصول على رتبة ضابط بواسطة خادم من خدم الضابط مع البزّة من إشارات مذهبة اللّهم الاّ اذا خطر ببال الضابط أن يمنع إقامة الحفلة كما منعها في السنة الماضية معتكر المزاج.بعد أن خسر في القمار إذ أنّ شيئا من الشغب كان قد حدث في السّجن فإذا هو يمنع كلّ شيء في صورة من الغضب والاستياء ولعلّه كان يحب ان يمنع اقامة حفلة تمثيلية في هذا العام. وكان «تشي» متحمّسًا وكان من الواضح أنّه أحد المنخرطين الأوائل في إقامة المسرح المرتقب وقد قرّرت بيني وبين نفسي أن أحضر المسرحيّة. إنّ الفرح الشديد الذي على وجهه أثناء حديثه عن هذا المشروع قد اثّر فيّ تأثيرًا قويّا، وشيئا فشيئا أصبحنا نتصارع ونتكاشف فذكر لي فيما ذكر أنّه لم يكن في سوسة فحسب فقد وُجّهَ أيضا إلى مدينة المهدية برتبة ضابط صفٍّ مع قافلة من الجيش ثمّ أضاف إلى ذلك قوله: من هناك أُرْسِلْتُ إلى هنا. سألته: لماذا؟ فأجاب: لماذا؟ انّك لم تحزر السّبب يا اسكندر. لقد أُرْسِلت إلى هنا لأنّني عشقتُ... فقلت له ضاحكًا: دعك من هذا الكلام فما من أحد مضى لهذا السّبب! فقال: الحقيقة ان السبب في ذلك هو الغرام. قتلت هناك ألمانيا بطلقة من مسدس ولكن هل أحكم من أجل ألمانيّ بالأشغال الشاقة؟! إنّني أحتكم إليك! كيف وقع ذلك؟ اقصص عليّ القصّة فلا شك في أنّها قصّة شخصيّة. بل هي قصّة مضحكة يا اسكندر!