استاثر موضوع إصلاح التعليم باهتمام وزارة الإشراف منذ أشهر عديدة وعملت مختلف اللجان المختصة على بناء تصوراتها واختتمت أعمالها بندوة عمل القائمون عليها على تشريك كل الفاعلين التربويين ومختلف مكونات المجتمع المدني تمخضت عنها تكوين لجان ستعمل على بلورة جملة من الإصلاحات التربوية وبذلك تضع حدّا لكل الإخلالات والهنات التي ميزت المنظومة التربوية مرة واحدة وإلى الابد.... بدءا لا يجب التشكيك في نوايا الإصلاح التي عبر عنها الساسة أو في قدرة من شارك في ذلك البتة غير أنه من الضروري ومن باب المسؤولية التاريخية التنبيه إلى عدّة مسائل ملحة تقتضي التوضيح واعتبرها من الركائز الأساسية لأي خطوة إصلاحية للنظام التربوي التّونسي. إن أول سؤال يطرح هو: «هل المطروح اليوم ونحن في مسار ثوريّ أن نتحدث عن إصلاح التعليم أم عن تأسيس لنظام تعليمي جديد يكون أسّا لأي إصلاح آخر في المجالات الاقتصادية والاجتماعية....ماذا سنصلح إذا كنا متأكدين ومجمعين على أن مستوى التعليم في تونس مترد؟ وإذا علمنا أن محاولات الإصلاح السابقة التي شارك فيها أغلب رواد إصلاح اليوم قد توجت بفشل ذريع وأدت إلى ما نحن عليه اليوم من وهن فعن أي إصلاح نتحدّث؟ يستبطن مفهوم الإصلاح السماح بالتواصل مع النظام التربوي القديم وتأبيد أدوات اشتغاله باعتباره نظاما مغلقا تتحكم فيه دوائر مالية عالمية وتسهر على تنفيذه ثلة من دعاة الاختصاص في تونس وهذا الارتباط العضوي بين تلك المؤسسات واللوبي « التربوي» المهيمن على كلّ المشاريع الإصلاحية أثبت عجزه عن حل المعضلات التي تشغل بال الفاعلين والمجتمع عامة والمتمثلة أساسا في ما يطلق عليه في أيامنا ب «الفشل المدرسي وتدني المستوى وضعف اللغات....وأي محاولة لأيّ إصلاح لجزء من منظومة مغلقة لن يكتب لها النجاح. ويمكن أن نستدل على ذلك بالإصلاحات السابقة التي انبنت على فرضية كون تخلّف المنظومة التربوية عائدا إلى نوعية المقاربة التعليمية فكان الانتقال من المقاربة بالمحتوى منذ ستينات القرن الماضي إلى المقاربة بالأهداف في أواخر التسعينات من نفس القرن ثم المقاربة بالكفايات ولكن ذلك لم يغير من الأمر شيئا فعمدت وزارة الإشراف إلى تدارك ذلك وتخصيص جزء كبير من أموال المجموعة الوطنية إلى التكوين ظنا منها أن ما يطلق عليه اليوم بالفشل المدرسي عائد إلى ضعف تكوين المدرّسين ولكن ذلك لم يؤدّ إلى نتيجة. هذا لا يعني أن المقاربة التعليمية التي يشتغل بها النظام التعليمي الحالي فاشلة أو أن محتوى التكوين الذي تلقاه المدرسون لا يفي بالغرض...ولكن المشكل الحقيقي هو أننا حولنا تعليمنا إلى مختبر للتحقق من فرضيات لا توجد إلا في أذهان ثلة من الإداريين في أبراج معزولة عن المشكلات الحقيقية التي تعيشها المؤسسة والعاملون بها. وإذا كانت محاولات إلإصلاح السابقة تنطلق من فرضيات معينة فإن المشروع الإصلاحي الذي يملأ الدنيا في ايامنا هذه لم ينطلق من فرضية معينة بل اختار أن يعتمد على تقييم الواقع التربوي وبناء على نتائج التقييم تُبْنى إلإصلاحات . يبدو ذلك منطقيا بالنسبة إلى غير المتخصص. أما بالنسبة إلى الذين مارسوا المهنة وكابدوا مضايقها فالأمر يبدو غير ذي جدوى لأنّه ببساطة سيقيم جسما مريضا مرضا عضالا ولا يمكن لنا إلاّ تأجيل موته إلى حين. من المؤكّد مسبقا أن التقييم الذي سيتكلف على المجموعة الوطنية أموالا طائلة سينتهي إلى عدّة نتائج مهمّة أفترض واحدة منها وهي وجود نسبة عالية جدّا من المدرّسين الذين يمتهنون هذه المهنة لم يكونوا معدّين إليها إعدادا مهنيّا خاصّا في حين أن عدد المدرسين المتوقع انتدابهم سنة2012 سيتجاوز 3500 مدرسا. هذا دون أن نتحدّث عن نية اللجان في إعادة النظر في الزمن المدرسي ونظام الامتحانات وكأنّ هذه العناصر هي المتسببة في الفشل..قد يصح هذا التمشي في إطار خطوات إصلاحية داخل نظام تعليمي سليم ولكنه لا يصح في واقع الحال لأن انتظارات المجتمع التونسي أرفع سقفا من مجرد القيام بترقيعات لهيكل متداع للسقوط. وكي ينتقل الذكاء التونسي من كونه عبءا على المجتمع إلى مؤسسة منخرطة فعليا في بناء مجتمع المعرفة وفي بناء عقول مساعدة على حل المشكلات لا عقول معطّلة عن الفعل وكي يتحول المتخرج من عاطل على الفعل إلى جزء من الحل يجب أن نشرع فورا في التأسيس إلى تعليم جديد يرتكز على الأسس التالية: عدم تسييس التعليم واعتباره شأنا وطنيا يشترك كل التونسيين في بنائه وتحديد ماهيته من خلال ممثليه في المجلس الأعلى للتربية ومختلف الفاعلين التربويين والمختصين في مختلف المجالات الاجتماعية والاقتصادية. ذلك أن تعويل السلطة على نتائج التعليم من أجل تلميع صورتها لا يخدم لا السلطة ولا التعليم . التخلي نهائيا عن المنهجية الإصلاحية التي تسقط الحلول من قبل أطراف لا علاقة لهم بالفاعلين الحقيقين والتوجّه إلى كل الاطراف المعنية بالشأن التربوي وطرح الأسئلة الحقيقية عليها قصد تحديد التصورات انطلاقا من سؤال مداره على تحديد طبيعة علاقة التونسي عموما بالمعرفة: فمثلا: هل سألنا يوما تلميذا لماذا يذهب إلى المدرسة؟ هل يرغب في الذهاب إليها؟ وإن كانت الإجابة ب «لا» فلماذا؟ . هل تساءلنا يوما لماذا يذهب أبناؤنا مكرهين إلى المدرسة خلال فترة الدراسة وأيام الآحاد يسرعون إليها ويتسلقون أسوارها للّعب فيها؟ هل سألنا العائلة التونسية لماذا تأخذ أبناءها يوميا إلى المدرسة؟ ماذا ينتظرون من تعليم أبنائهم؟ ما طبيعة العلاقة بينها وبين العاملين بها؟ هل سألنا مدرسا عن الصعوبات التي تعترضه اثناء قيامه بمهنته؟ هل سألناه عن السبب الذي يجعل المتعلمين يقبلون على دراسة بعض المواد بدافعية عالية ولا يقبلون على دراسة مواد أخرى بنفس الدافعية؟ هل سألنا يوما مدير مؤسسة عن الصعوبات التي تعترضه اثناء آداء مهامه الإدارية والبيداغوجية؟ وسؤال الأسئلة الذي يجب على السلطة طرحه على نفسها» ما الغاية من تعليم الابناء؟ وهل يعد ذلك أولوية بالنسبة إليها؟ وإذا كان ذلك أولويّة الأولويات كيف السبيل إلى التوجّه نحو الاستثمار في المعرفة؟ وأيّة معرفة نريد؟» وغير ذلك من الاسئلة التي تشكل قاعدة معلومات أساسية يبنى عليها مشروع التّأسيس. إن من يجيب عن هذه الأسئلة بدلا عن أصحابها الحقيقين هم الذين يقودون اليوم قافلة الإصلاح وهم من يقترحون بدائل لقضايا لا توجد إلا في أروقة البنايات الشاهقة. لا يمكن الحديث عن تاسيس نظام تعليمي جديد بعيدا عن مقولة أساسية هي الاستشراف، ذلك ان ثمار أي تغيير يطال النظام التربوي لا يمكن قطف نتائجه إلا بعد ما يقارب العقدين من الزمن وعلى ذلك فإن الرؤية الاستشرافية باعتبارها نشاطا علميا صرفا هي الاقدر على تحديد ملامح المتخرج التي يتطلبها المجتمع في ذلك الوقت. والاستشراف لا يعني فقط تحديد حاجيات المجتمع في المستقبل بقدر ما يعني تحديد الإشكاليات ممكنة الوقوع وتهيئة الحلول الممكنة لها لأننا «نعمل داخل هياكل الأمس بطرق اليوم لحلّ مشاكل الغد وبالاعتماد على أشخاص وضعوا هذه الهياكل بالرجوع إلى ثقافة قبل الأمس لكنهم لن يشاهدوا أبدا مستقبل أعمالنا» على حد رأي سبرينقر Springer كما يساعد العمل الاستشرافي على تسهيل عملية الربط بين المنظومة التعليمية والمنظومة التكوينية خدمة لمختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية وعلى أساسه تفتح الشعب الدراسية وتحدد البرامج التعليمية والطرائق المناسبة لتحصيلها وهنا يتحدد الفرق بين المنهج الإصلاحي الذي يطمح إلى إصلاح ما فسد وبين التّأسيس الذي يبني منظومة تربوية استشرافية مفتوحة قادرة على تعديل نظامها دوريا كلما اقتضت الضرورة ذلك. الكف عن التعويل على التعليم في حل مشاكل التشغيل والاتجاه نحو تكوين إطار تربوي مختص والنظر إليه باعتباره عالما قادرا على استثمار فصله على أنه مختبر يمكنه من تطوير معارفه في إطار من العمل المجموعي والتفاعلي مع زملائه بغية تطوير الأداء وحل المشكلات التعليمية التي تعترض سبيلهم في إطار من الاحترافية وفي هذا الإطار يمكن الاستئناس بالتجربة الفنلنديّة. تحويل المؤسسة التربوية إلى فضاء يطيب الذهاب إليه وذلك بتهيئته وفق شروط محددة تراعي كل الجوانب النفسية والحركية والفكرية والثقافية للمتعلم والنظر إلى المؤسسة التعليمية باعتبارها فضاء متعدد الاختصاصات التربوية والتعليمية والثقافية وليس فضاء للتعلم فحسب والعمل على تعويد الأبناء على التعلم واللعب والإبداع في مختلف المجالات في فضاء واحد بما يمكنهم من التدرب على العيش مع الآخر وبذلك ينتهي الحديث عن الزمن المدرسي نهائيا. ولإنجاح ذلك يجب توفير الإطار الإداري الكفء والمختص وكذلك الإطار المختص في التنشيط الثقافي والرياضي والفني . مع إعادة النظر في معايير اختيار الإطار المشرف على هذه المؤسسة بما يتماشى والتطور التكنولوجي وأساليب التواصل الحديثة. ربط المؤسسة التربوية ماليا بالهيئات المحلية والجهوية المنتخبة التي تضطلع بتمويلها وصيانة تجهيزاتها وتهيئة فضاءاتها الحرص على ان يكون التعليم مجانيا في مختلف مراحله ومن حق الجميع دون الاخذ بعين الاعتبار الفوارق الاجتماعية أو العرقية مع القطع مع ظاهرة الاتجار بالتعليم وتحويله إلى سلعة بيد المستثمرين الباحثين عن الربح. وبذلك تتقلص نسبة الانقطاع المبكر الذي قد يثقل كاهل المجموعة الوطنية لاحقا . القطع مع نظام الامتحانات التي تهدف إلى انتخاب الأفضل وتهميش الذين لهم صعوبات في التعلّم. إن المؤسسة التي تتوخى نظاما تقييميا ناجعا هي التي تتكفل صحبة خبرائها المدرسين بتحديد الصعوبات التي يواجهها بعض المتعلمين في مسارهم التعليمي وهي التي تبرمج لهم آليات لتجاوز تلك الصعوبات وإعفاء العائلة من تلك المسؤولية ونكون بذلك قد قطعنا نهائيا مع ظاهرة دروس التدارك التي تضطر إليها العائلة اضطرارا. ردم الهوة التي تفصل بين مراحل التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي والعالي والعمل لجعلها متنافذة ومتكاملة بُغْية تحقيق الغايات التي تم تحديدها مسبقا. هذه بعض الآراء التي تبقى في حاجة إلى الإثراء وإلى مختصين قادرين على هيكلتها وفق نظام منسجم ومتكامل غايته التّأسيس وليس الإصلاح. الناصر جلال (متفقد تعليم بالمدارس الابتدائية)